Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

مات برنارد لويس.. فهل ماتت خرائطه؟!

بدون نخب مثقفة عربية، وبدون مناخ لتداول الأفكار، ومناقشتها مع الرأي العام، فإن مهمة التصدِّي لطروحات ثقافية في الغرب، من نوع طروحات برنارد لويس، تصبح مهمة مستحيلة. فالأوطان لا يحرسها الجنود وحدهم، وإنما يحميها شعب عرفت الاستنارة طريقها إليه.

A A
قبل يومين فقط مات برنارد لويس المستشرق والمؤرخ اليهودي البريطاني المولد، والأمريكي (لاحقاً)، عن ١٠١ عام، قدم خلالها العديد من الكتب، والدراسات، والخرائط التي ساهمت ولا تزال تساهم في تشكيل رؤية النخب الحاكمة في الغرب، لعل أبرزها كتابه (تشكيل الشرق الأوسط الحديث)، وكذلك كتابه (العرب في التاريخ) وكتب أخرى مثل: (فسيفساء الشرق الأوسط)، و(مستقبل الشرق الأوسط) و(الهويات المتعددة للشرق الأوسط)، وهكذا كما تلحظون، فالرجل الذي أجاد كل لغات الشرق الأوسط تقريباً، من الآرامية واليونانية وحتى العربية والعبرية والتركية والفارسية، قد صب جل اهتمامه على منطقتنا، حتى بات متهماً لدى بعض النخب العربية بأنه هو من وضع خرائط إعادة تقسيم دول المنطقة، طبقا للهويات المذهبية والدينية والطائفية.

تتعارض رؤيتنا لذواتنا بالتأكيد، مع ما يطرحه برنارد لويس بشأننا، فالرجل كان استعمارياً مخلصاً لفكرة الاستعمار، لكننا ينبغي أن نعترف بأنه كان مخلصاً لأفكاره، مجاهداً ليس فحسب في نشرها، وإنما في بلوغها منصات القرار في الغرب (أمريكا وبريطانيا بصفة خاصة).

لا يمكن مطالعة خرائط ما بعد (الربيع العربي) ومتابعة ما يجري بمنطقة الشرق الأوسط منذ هجمات سبتمبر في العام ٢٠٠١، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، دون أن نلحظ عليها بصمة لبرنارد لويس، الذي أثرت كتاباته وترجماته ومطالعاته في النخب الحاكمة بالغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن.

لا أجدني مهموماً بتأثير كتابات برنارد لويس بشأننا، قدر اهتمامي بضعف تأثير النخب المثقفة العربية على مختلف مستويات القرار العربي، (لماذا؟!).

لدينا نخبة مثقفة يحترف بعضها الكتابة، ويهتم القليل منها بالمستقبل، لكن تأثير هذه النخب العربية في صنّاع السياسات، يظل ضئيلاً أو منعدماً. وبينما لم يجد برنارد لويس من بين النخب المثقفة بالمنطقة العربية من يتصدى لأفكاره ولتصوراته بشأن العرب والإسلام، فقد تصدَّى له الراحل الباحث الأمريكي العربي الأصل د. إدوارد سعيد، لكنه كان مثل الصارخ في البرية، إذ ذهب صراخه سُدَى، فيما كان لويس يحشد تلاميذه والمؤمنين بأفكاره، في مواقع صناعة القرار بالولايات المتحدة، في مرحلة شهدت استفراداً أمريكياً بزعامة العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة حلف وارسو مطلع التسعينيات، فكان من بين تلاميذ برنارد لويس النابهين، عدد من صقور اليمين الأمريكي المحافظ، مثل ديك تشيني وبول وولفويتز، وريتشارد بيرل وجيمس وولسي، وشيمون بيريز، ومن بينهم أيضاً أحمد الجلبي الذي انضم إلى النخبة السياسية العراقية عقب الغزو الأمريكي للعراق.

أخلص برنارد لويس لرؤيته الاستعمارية لمنطقتنا، تماماً كما أخلص في تبنِّيها والدفاع عنها، تلامذته في مختلف مواقع القرار الأمريكي، بالبيت الأبيض، والبنتاجون، ومجلس الأمن القومي الأمريكي، والمخابرات المركزية الأمريكية، وغيرها. وساهمت قدرته الفذة على تبسيط أفكاره وشرحها للعامة بلغةٍ بسيطة وضمن كُتب موجزة، في نشر تلك الأفكار الاستعمارية وسط أطياف متنوعة في الغرب.

التصدِّي لخرائط وضعها لويس ضمن رؤيته لشرق أوسط جديد، ليس مهمة الجيوش وصنّاع السياسة ومحترفي الدبلوماسية وحدهم، وإنما تصبح مهمة التصدِّي ممكنة، إذا ما شارك فيها نُخب وطنية حسنة الاطلاع، ولديها القدرة على التواصل مع الرأي العام، وتعزيز قدرة الأوطان على التصدي لأفكار لويس ولخطط حكومات في الغرب تُحسن الإنصات إلى مثقفيها.

بدون نخب مثقفة عربية، وبدون مناخ لتداول الأفكار، ومناقشتها مع الرأي العام، فإن مهمة التصدِّي لطروحات ثقافية في الغرب، من نوع طروحات برنارد لويس، تصبح مهمة مستحيلة. فالأوطان لا يحرسها الجنود وحدهم، وإنما يحميها شعب عرفت الاستنارة طريقها إليه.

انتبهوا.. فقد مات برنارد لويس، لكن أفكاره قد تحوَّلت على أيدي تلاميذه إلى برامج تتبنَّاها حكومات، وتعكف على تنفيذ خرائطها مؤسسات وأجهزة. ما يجري في سوريا وفي ليبيا، هو بعض تجليات خرائط برنارد لويس بشأن الشرق الأوسط الجديد.

تمزيق خرائط برنارد لويس لا تضطلع به الجيوش ولا الحكومات وحدها، وإنما هي مهمة النخب المثقَّفة وتيارات الاستنارة العربية.

حماية الوحدة الوطنية، بالتسامح، والتسامي، وإدراك حقائق التنوع، والتعايش مع المختلف، هي مهمة النخبة المثقفة المستنيرة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store