Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الخوف على النقد

يقف النقد العربي أمام هذا كله باهتًا، مجردًا من أي سلاح.. هناك محاولات كثيرة لاسترداد مجد ثقافي مسروق، لكنها لا تعدو أن تكون مجرد ردة أفعال تجاه حالة لا نعرف اليوم مؤدياتها، ونجهل أحيانا حتى ميكانيزماتها الاستراتيجية التي بنيت عليها.

A A
من بين أهم القضايا التي تشغل المشهد الثقافي العربي، الوضع الاعتباري للنقد في الساحة الثقافية العربية؟ أما يزال النقد قادرًا على التأثير على مسارات الأدب، وهل ما زال يملك الإمكانية لصناعة الاستثناء الأدبي؟ بمعنى آخر هل مات النقد العربي، أم هو في طريقه إلى ذلك؟

من خلال ما نلاحظه اليوم من هروب واضح من هذا الحقل نستطيع أن نقول إن المخاطر المحدقة به كثيرة؟ يعيش النقد العربي زمنًا صعبًا لا يسهل من مهامه النبيلة ثقافيًا، على مستوى التقبل والانتشار، وكأن المجتمعات العربية المبنية على أسس غير ديمقراطية وجدت ضالتها في هذا التوقف القاسي والهجران القرائي للنقد. جزء من حقوله سرقته الميديا وحولته لصالحها من منطق الاستهلاك السريع والمباشر، وكأن النظريات التي تأسس عليها النقد دائمًا أصبحت واحدة من معطلاته. إنه يتحول بسرعة كبيرة تجعل من متابعته أمرًا ليس هينًا ولا يسيرًا. يحدث هذا في ظل طغيان هيمنة الوسائط الاجتماعية التي اجتاحت كل الحقول ولم تترك أية مساحة بدون مسها أو تغييرها بما يتلاءم مع العالم الجديد.

يقف النقد العربي أمام هذا كله باهتًا، مجردًا من أي سلاح.. هناك محاولات كثيرة لاسترداد مجد ثقافي مسروق، لكنها لا تعدو أن تكون مجرد ردة أفعال تجاه حالة لا نعرف اليوم مؤدياتها، ونجهل أحيانا حتى ميكانيزماتها الإستراتيجية التي بنيت عليها.

لقد انسحب النقد العربي بهدوء وكأنه ينتظر رصاصة الرحمة التي تأخرت كثيرًا.. لقد تراجع كثيرًا أمام المواجهة التي جمعته وتجمعه اليوم بجنس متسلط، اسمه الرواية.. فقد محت، من حيث الحضور على الأقل، كل الأجناس الأخرى من طريقها لدرجة أننا لم نعد نسمع إلا بها. نعرف جيدًا أن النقد ظل دومًا في الدوائر الأكثر تخصصًا ومنها الدوائر الأكاديمية، لكن حضوره كان دائمًا مهمًا ويعدل من مسارات الأدب.

لم يكن فيليب هامون الذي خصّ جهده للشخصية وتحولاتها، ظاهرًا في المحافل العامة، ظل مخفيًا داخل السوربون 3 التي استقبلت أغلب أعماله الأكاديمية.. ولم يكن فيليب لوجون الذي جعل من السيرة رهانه النقدي، معروفًا خارج الأوساط الجامعية شديدة التخصص وفرق العمل التي تشتغل على السيرة، على الرغم من قيمته العلمية التي لا تضاهى. ولم يكن محمد آركون الذي تعمق في الدرس الإسلامي من الموقع التاريخي والأنثربولوجي حالة إعلامية كبيرة على الرغم من قيمته الأكاديمية والتاريخية. ولا جهود ميشيل فوكو في عمله المميز على الجنون أو أركيولوجية المعرفة. رولان بارث، جعل من النقد مكانًا لتجلي الحرية والإبداعية النقدية على الرغم من تأثيرات السيمائية على جهده الكبير. جيرار جنيت، لم يكن أقل شأنًا في درسه على التناص والشعرية وتطبيقاتها. جمال الدين بن الشيخ المترجم العظيم لألف ليلة وليلة التي دخلت إلى البيلياد، عدد كبير من هذا الأسماء ظلت في أغلبها بعيدة عن شهرة البيست سيلر.

يحتاج الأمر إلى قراءة نقدية حقيقية للنقد تعيده إلى مداره الطبيعي.. هذه القراءة الضرورية للممارسة النقدية العربية في كل تحولاتها، في الخمسين سنة الأخيرة، كفيلة بوضع هذا الجهد الكبير في المدارات الإعلامية، مثلما حدث للروائيين الذين أصبحوا جزءًا من المشهد الثقافي والإعلامي كنجوم يملأ حضورهم الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي. على الرغم من ذلك كله، هناك جيوب نقدية حيوية ومقاومة تتبناها أسماء قليلة ما تزال تؤمن بجدوى النقد، وجدوى الأدب عمومًا. المسألة مفهومة عالميًا ويمكن تفسيرها بسهولة. نجد المئات بل الآلاف من المبدعين الروائيين عالميًا، لكن صناعة ناقد واحد تقتضي زمنًا حقيقًا لأن المسألة أكثر تعقيدًا ثقافيًا وتركيبيًا. النقد ثقافة وانتماء كلي لعصر أو لسلسلة من العصور، بحسب قدرة الناقد على التآلف والمتابعة والانتماء للعصر المعاش بعقل حيوي وجديد. يظل النقد آلة لاختبار جدوى النصوص وفهم حركتها الداخلية وآلياتها، والآلة تحتاج إلى زيت دائم، بمعنى أن تكون ملمة بثقافة عصرها ولا تبقى على هامشها. الانفصال هو القبول بقدر الموت البسيط والجاهز؟ لكن هذا يقتضي خبرة معرفية ترتكن حتمًا إلى جهد ميداني كبير ومميز، والقبول بخلق جسور حقيقية بين الأنا والآخر.. لا نقد بدون هذه الخيارات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store