Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أويس عبدالرحيم كنسارة

شذرات من الغربة

A A
* الغربة كربة.. والألم فيها يصل إلى "الركبة". هكذا يقول المثل الشعبي. وهكذا شعرت في غربتي الحالية في كندا التي أتيتها مُؤخَّراً لدراسةٍ مؤقتة. هكذا شعرت يوم العيد. العيد الذي يصعب أن يكون سعيدا بلا رفقة الوالدين والأهل والأصدقاء. أدام الله اجتماعكم، وكثّر أفراحكم، ووفق المبتعثين وأعانهم.

* وعلى سيرة الغربة، أعترف لكم أنني ممّن يعتريهم حنين سريع للوطن (homesick)، كلما سافرتُ، وأينما ذهبت، خارج حدود المملكة. وهذه الحالة، حالة الحنين للوطن، لا تُعد فقط تعبيرا أدبيا، بل هي حالة مصنَّفة علميا وطبيا. فعندما رجعت لتاريخها، قرأت -والعُهدة على الكاتب- أن إرهاصات تشخيصها بدأت منذ العام 1688م عندما قام الطبيب السويسري "يوهانس هوفر" بدراسة قضية طالب مغترب شعر بالإرهاق وأصيب بحمى شديدة، فأوصى "هوفر" بإرجاع هذا المريض إلى وطنه فقط. ماذا حدث؟ بمجرد عودته سرعان ما تعافى، وعاد لعافيته وصحته.

* ومع خمسينيات القرن الثامن عشر الميلادي، تمت إضافة المصطلح العلمي "الحنين للوطن" homesickness في قاموس أوكسفورد رسميا، وبدأت عمليات تشخيص المرض تنتشر في العالم، فكانت إحدى الحالات لجيش الاتحاد الأمريكي الذي تم تشخيص 5000 من جنوده بهذه الحالة، نتيجة ابتعادهم لفترات طويلة عن بيوتهم.

* والحديث عن الغربة في الحقيقة، هو حديثٌ لا يخلو من شجون. فالأدب العربي مليء بالأشعار عن الغربة ومشاعرها، وشجونها وأدبياتها ووصاياها. ففي أهمية المداراة والمسايرة مع الثقلاء وغيرهم في مواطن الغربة، يوصي الشاعر محمد الجذامي بأن يكون الغريب أديباً، إذ يقول:

إِن تَرْمِكَ الغربةُ في معشرٍ..

قد جُبِلَ الطبعُ على بغضهمْ‬

فدارِهمْ ما دمتَ في دارِهم

وأَرْضِهم ما دمتُ في أَرْضِهم!‬

* وعلى ذِكر‬ العيد، أتذكَّر ما قاله المتنبِّي في بداية قصيدته الهجائية، واصفاً غُربة العيد وبُعده عن أحبَّتِه - في دولة الحمدانيِّين، حيث قال:

عِيدٌ، بِأَيَّةِ حَالٍ عُدْتَ يَا عِيدُ

بِمَا مَضَى؟ أَمْ لِأَمْرٍ فِيكَ تَجْدِيدُ؟

أَمَّا الأَحِبَّةُ فَاْلبَيْدَاءُ دُونَهُمُ

فَلَيْتَ دُونَكَ بِيدًا دُونَهَا بِيدُ

* أما حنين المأكولات الوطنية، والعربية، فقصة أخرى لا تستطيع تعويضها مطاعم الغربة. ولم يفوّت ذلك الشاعر اللبناني نور الدين بدر الدين ضمن مخاطبته لصديقه العائد من المهجر في قصيدة طويلة:

وعُدت إلى أرض الجدود تبثّها

عواطف مشتاق يهيم بها ذكرا‬

تتوق إلى لحم الجمال وطعمه‬

وتنشر من ماضيك ما قد مضى سِرّا

* وختاماً، فالغربة مدرسة للصبر والكفاح. وإن كان لكل شيء في النهاية ثمناً، فإن الغربة بكل أوجاعها هي ثمن نجاح المبتعثين. وفق الله أبناء الوطن جميعاً. وألقاكم قريباً على خير.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store