عين زبيدة .. نبض الحياة لمكة المشرفة وللحجاج لأكثر من (1200) عام

تُعدُّ عين زبيدة معلمًا تاريخيًّا للتراث الإنساني الإسلامي في مكة المكرمة، لا يمكن نسيان هذا المعلم، بل لابد من إحيائه وتعليمه لأبنائنا وأجيالنا القادمة وتعريفهم بمآثر حضارتنا الإسلامية منذ مئات السنين، وكيف صمدت طوال هذه القرون؛ وزبيدة تعتبر أحد النماذج للنساء العربيات اللاتي كان لهن أثر كبير في التاريخ الإسلامي. ولا تزال مواضع عديدة من قنوات عين زبيدة باقية إلى الآن تروي لنا تاريخًا ملموسًا نفخر ونعتز به على مدى الأيام والأعوام. سُمّيت عين زبيدة بهذا الاسم نسبة إلى صاحبة هذا المشروع السيدة زبيدة، فهي التي أمرت بإجراء هذه العيون بعد أن رأت معاناة هذه المدينة المقدسة من شح المياه والتي نتجت بقلة الأمطار وجفاف مياه الآبار، فقد أطلق على هذه العين اسم زبيدة للدور البارز الذي قامت به»، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبًا، أوما يعادل ستة عشر كيلومترًا. وقد أنفقت زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتوفير المياه العذبة والراحة لأهل مكة والحجاج ولتحميهم من كارثة الموت. حيث قيل إنه بلغ مجموع ما أنفقته على هذا المشروع مليونًا وسبعمائة ألف مثقال من الذهب. أي: ما يساوي خمسة آلاف وتسعمائة وخمسين كيلوجرامًا. ويستطيع القارئ والقارئة أن يحدد قيمة كيلو الذهب الخالص ويضربه فيما أنفقته، إنه مبلغ أقرب إلى الخيال، ولاسيما في القرن الثاني زمن إنشاء هذه العين.
إن منبع هذه العين من الجبال التي تقع شرق مكة ومن وادي النعمان، حيث اشترت جميع الأراضي في الوادي، وأبطلت المزارع والنخيل، وأمرت بأن تُشقّ للمياه قناة فى الجبال، وقد جعلت لها فتحات لأقنية فرعية لزيادة الماء ومن هذه الأقنية الفرعية التي خصّصتها لمياه الأمطار ويطلق عليها اسم (عين مشاش وعين ميمون وعين الزعفران وعين البرود وعين الطارقي وعين تقبة والجرنيات). وكل مياه هذه الأقنية الفرعية تصبّ فى القناة الرئيسة، من وادي نعمان إلى عرفة، ثم إنها أمرت أن تُدار القناة على جبل الرحمة، وأن تجعل منها فروعًا إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، وهيأت الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجريّة جميلة لكي يشرب الحجاج منها بكل يسر وسهولة، كما بُني في هذه القنوات الملتفّة بجبل الرحمة مجارٍ لتجميع مياه الوضوء وصرفها إلى المزارع المجاورة التي كانت موجودة في السابق. ومن ثمَ تصل إلى المزدلفة وإلى جبل خلف منى، ثم تصبّ فى بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى بئر زبيدة في منطقة تُسمّى اليوم بمحبس الجن، إليها ينتهي امتداد هذه القناة العظيمة (قناة عين زبيدة).
واستطاعت السيدة «زبيدة» أن ترفع عن كاهل الحجاج والمعتمرين معاناتهم من قلة المياه وارتفاع ثمنه بإيجاد هذه العين وخاصة عن الفقراء الذين كانوا يؤدّون فريضة الحج سيرًا على الأقدام، فمنذ أكثر من ألف ومائتي عام وعين زبيدة تروي عطش الحجاج القادمين إلى مكة المكرمة لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام في هذه المنطقة شبه الصحراوية. وقد قام بإصلاحها منذ إنشائها العديد من الملوك والأمراء والسلاطين. وفي العهد السعودي أي: في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أُنشئت إدارة خاصة لإدارة العين سُمّيت (عين زبيدة) تشرف إشرافًا كاملًا على العين والآبار الخاصة بها وترميمها. وهكذا استمرت هذه العين شامخة قوية لأكثر من ألف ومائتي سنة إلى عهد قريب، إلى أن استُعيض عنها بمياه البحار الناتجة عن محطات التحلية الضخمة، وذلك بسبب شحّ المياه فيها وتدمير أغلب قنواتها بسبب التطوّر العمراني في مكة المكرمة. ولـ: (زبيدة أعمال خلدها التاريخ أيضًا مثل الطريق من العراق إلى مكة المكرمة حيث مهد هذا الطريق وأنشئت عليه محطات بها برك الماء وما يحتاجه من مسافر، سمي درب زبيدة وأصبحت هذه المحطات مدنًا تاريخية، تناولتها الدراسات العليا حاليًا من ماجستير ودكتوراة، لذلك نالت زبيدة شهرة لم ينلها أحدٌ غيرها وزبيدة هي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور أبي جعفر العباسية، والدة الأمين محمد بن هارون الرشيد، وقد قيل: لم تلد عباسية خليفة سواها، وكانت عظيمة الجاه والمال، ولها آثار حميدة في طريق الحج كما وضح سابقًا، وجدّها المنصور هو من لقّبها زبيدة لبضاضتها ونضارتها، وكان في قصرها من الخدم والحشم والآلات والأموال ما يقصر عنه الوصف، من جملة ذلك: مئة جارية، كل منهن تحفظ القرآن، توفيت سنة ست وعشرين ومئتين، وهي التي سقت أهل مكة بعد أن كانت الراوية (القربة) عندهم بدينار، قال الثعالبي: كانوا يقولون لونشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلاّ بخليفة أو ولي عهد، فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهدي عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، وأما ولاة العهد فكثير.