Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

جناية سقراط بحق العرب

لم يخطر ببال الفيلسوف اليوناني سقراط مدى الأثر (غير الإيجابي) الذي ستجرُّه مقولته الشهيرة (تكلم حتى أراك) على العرب، فهو حينما قالها لذلك الشاب (الصامت) الواقف أمامه المزهو بنفسه إنما أراد أن يستنطقه

A A
لم يخطر ببال الفيلسوف اليوناني سقراط مدى الأثر (غير الإيجابي) الذي ستجرُّه مقولته الشهيرة (تكلم حتى أراك) على العرب، فهو حينما قالها لذلك الشاب (الصامت) الواقف أمامه المزهو بنفسه إنما أراد أن يستنطقه ليفكَّ شفرة أفكاره. لم يكن سقراط بمقولته تلك يرمي إلى قيام ذلك الشاب بفعل (الثرثرة الصوتية) واستعراض مهاراته البلاغية وهو ما ظنناه المقصود بمفردة (الكلام) الواردة في مقولته، في حين إن مقصوده التعرف على ما لدى الشاب من أفكار والتعرف على طريقة تخطيطه للكلام. ما حفَّزني للحديث عن مقولة سقراط تلك هو ما طرحه الدكتور جمعان عبدالكريم في تغريدة له حينما قال: «لا يكفي ما قاله سقراط (تكلم حتى أراك) بل ينبغي أن يُقال (افعلْ ما تتكلم به حتى أراك) فحينئذٍ تظهر قيمتُك الحقيقية». الدكتور هنا تخطى مسألة الوقوف على مجرد تنميق الكلام إلى مسألة الفعل والممارسة والتطبيق، وهذا هو الأمر الذي أخفق فيه العرب حينما فُتِنُوا بالكلام وتنميقه وتحسينه -على حساب الفعل والممارسة والتطبيق- من خلال الخطب المنبرية والمنابر الثقافية ووسائل الإعلام والمناسبات الاجتماعية والحفلات الشعبية، وغيرها من المنابر التي تهيِّئ البيئة المناسبة للمتكلم ليمارس من خلالها استعراض مهاراته القولية التي تفتقر لأدنى الممارسات الفعلية المصدِّقة لأقواله. إذا ما اتفقنا أن الكلام هو ما أفاد معنىً، أو هو بحسب ابن فارس في مقاييسه «نطق مُفْهِم» فإن ما يمارسه العرب اليوم بحجة أنه كلام مفيد إنما هو مجرد (صوت) لا يحمل شيئًا من معاني الكلام، ولذا فرَّق عبدالله القصيمي بين الكلام والصوت بقوله: «الكلام تخطيط أو تعبير عن تخطيط أو عن خطة أو فكرة أو تفكير. إن فيه معنى الهدف والتحديد والتسديد الى شيء معين مراد معروف أو مظنون، أما الصوت أو التصويت فإنه لا يصعد إلى هذا الطور. إنه ليس إلا تعبيرًا عن الذات أو عن الحالة، تعبيرًا ليس فيه معنى التحديد أو التسديد أو الهدف المراد». هنا يكفي أن نعلم أن الله تعالى ذم القائلين دون فعل يصدِّق أقوالهم بقوله: «لِمَ تقولون ما لا تفعلون». وحين نقارن العَربَ بالغرب نجد أن الغرب ليسوا أمة فصاحة وبلاغة مثلنا ومع هذا سبقونا إلى المنجز الأهم (الفعل) ونحن لا نزال نراوح عند منجزنا (الصوتي)، ولذا نُشفِق على الأجيال حين تُقضِّي أوقاتها وتُنفق أموالها في تعلُّم فنون الكلام والإلقاء بل (والتهريج) وتحسين وتلوين الصوت، فقط لتملأ العيون وتنال المنزلة. لست ضد تعلُّم الكلام وطرائقه، لكن ينبغي ألا يكون الكلام (الصوت) مقدَّمًا على الفعل والتطبيق والممارسة، ففرد واحد (مطبِّق) لكلامه ومثله (الفاعل المُنتِج) في فصله أو معمله أو متجره أو مزرعته يكفي عن ألف صوت من الخطباء والشعراء والمتكلمِين والمنظِّرِين والمهرِّجين.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store