Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

غازي القصيبي.. صور مختلفة

غازي القصيبي.. صور مختلفة

مرحلة ما قبل النضج، هي مرحلة لا يعول عليها كثيرًا، لأنها مرحلة قابلة للاستغلال، هذا غير أن العقل يكون غير مدركٍ لكثير من أمور الحياة والمنطق أحيانًا؛ لذا فإن زمام العقل يكون سهل المنالِ لكل أحد، ليخرج بعد ذلك المقود مجرد تبع لمن أخذ الزمام واستولى عليه من البداية، وهذا القائد لا يريه إلا ما يرى!

A A

مرحلة ما قبل النضج، هي مرحلة لا يعول عليها كثيرًا، لأنها مرحلة قابلة للاستغلال، هذا غير أن العقل يكون غير مدركٍ لكثير من أمور الحياة والمنطق أحيانًا؛ لذا فإن زمام العقل يكون سهل المنالِ لكل أحد، ليخرج بعد ذلك المقود مجرد تبع لمن أخذ الزمام واستولى عليه من البداية، وهذا القائد لا يريه إلا ما يرى!
في هذه المرحلة كنت مجرد وعاء للآراء المعلبة والتصنيفات الجاهزة، لم أدرك بعد معنى تنازع الأنداد، وكان لغازي القصيبي أنداد يختلفون معه في أطروحاته وفكره، تبع ذلك معارك منبرية طاحنة سماها غازي فيما بعد بـ(حرب الكاسيت) ذكر طرفًا منها في كتابه (حتى لا تكون فتنة)، وليس هذا المقام مناسبًا لبيان أي الأطراف على حق، ما أريد قوله أن ما دار حول هذا الرجل من كلام جعلني في صف الأعلى صوتًا! انقطعت حرب الكاسيت بانقطاع أهلها، ثم وقعت في يدي نسخة من كتاب “حياة في الإدارة” كانت تلك الأيام أولى أيامي في الوظيفة، كنت أريد أن أستفيد من خبرة الرجل من الناحية الإدارية فإذا بي أرحل إلى عوالم ذاك الرجل، إلى بداياته، مثابراته، نجاحاته، مناصبه، وفائه وإخلاصه، تفاصيله الصغيرة، كان كتابًا مدهشًا، ومؤثّرًا، لم أتوقع أن يكون بيننا رجل مخلص لنفسه ووطنه بهذا الشكل، كان كتاب “حياة في الإدارة” نافذتي إلى عوالم غازي القصيبي، وعكفت بعد ذلك على قراءة كل نتاجه السردي المتوفر لدينا في المكتبات المحلية، ثم أرسلت له أطلب المزيد من كتبه غير المتوفرة –الممنوعة- لم تمض أسابيع إلا والبريد يخبرني بأن هناك مادة تنتظرني، ذهبت إلى البريد وإذا بظرف مرفق به محضر يفيد أن معالي الدكتور غازي القصيبي أرسل مجموعة من كتبه وقد تلفت بسبب المياه ولم يسلم إلا (سلمى) -رواية قصيرة له-، وكان ذلك بعد أن ترك وزارة المياه وانتقل إلى العمل، فساحت المياه بعد انتقاله وطالت الإهداء، وقد ذكرت هذه الحادثة بشكل مفصل في مقال نشر بجريدة عكاظ.كبر في عيني غازي القصيبي ذلك الرجل الذي يحمل على كاهله هموم الوطن وهموم المواطن وهموم الكاتب وهموم الأسرة ورغم ذلك فتواصله مع قرائه منقطع النظير.رحلة ماتعة كانت مع القصيبي من خلال كتبه، رسمت لي صورة مختلفة عن الصورة القديمة، أحببت هذا الرجل البحر، الذي لم  يملَّ من كثرة المراسلات مع محبيه وقرائه.عندما صدرت أول رواية لي، كان غازي القصيبي أول مخلوق فكرت أن أرسل له نسخة كنوع من رد بعض الجميل، أرسلت له الرواية مع رسالة أخبره فيها أني قرأت أغلب نتاجه وكل رواياته ما عدا (شقة الحرية)، ورغم أن عملي ذاك ضعيف إلى حد بعيد ومتهالك ويعتريه ما يعتري البدايات إلا إنه أرسل لي خطاب يشكرني فيه على الإهداء ومعه نسخة قديمة من رواية (شقة الحرية) كان في صفحتها الأولى توقيعه وفوق التوقيع هذه الجملة: “إلى الأخ الكريم الأديب طاهر الزهراني.. مع أطيب تحياتي.. غازي”!
وكنت على يقين تام أن هذا هو تواصله مع الجميع، لا أزال أذكر ذلك الشخص الذي أرسل له رسالة من قرية نائية، يخبره أنه بحث عن أحد دواوينه ولم يجده، وإذا به يفاجأ بعد أيام بحضور ساعي البريد لتك القرية يحمل في يده ظرف يحوي الديوان، إهداء من الرجل الرائع.أذكر عندما تقلد الدكتور غازي القصيبي وزارة المياه، أن أبي كتب له رسالة طويلة تحكي معاناة قرية صغيرة تقع في وادٍ من أودية تهامة الغبراء، لم تصلها بعد الخدمات الأساسية، لا كهرباء، لا طرق معبدة، ولا أي خدمة إنسانية، كانت هذه القرية هي قريتنا الصغيرة بوادي (رما)، أطال أبي الحديث عن أوضاع القرية ثم ختم تلك الرسالة بقوله: - يا معالي الوزير نحن نريد فقط ألا نموت عطشًا.بعد أسابيع قليلة كانت هناك لجنة من وزارة المياه في وادينا المنسي تدرس إمكانية إيصال المياه إلى المنازل المتناثرة في حلق ذلك الوادي القابع في تهامة زهران.بعد شهور كان الماء يتدفق إلى كل بيت من بيوت القرية!!وهكذا الحال عندما كان وزيرًا للصناعة والكهرباء، أوصل خدمة الكهرباء إلى قرى غائرة في خريطة الوطن، ماذا أقول عن هذا الرجل المتعدد الأوصاف، ما أقوله عن غازي القصيبي إنه كان إنسانًا أكثر من أي وصف آخر..
         رحمه الله وأسكنه فسيح جناته..                
                                                                                        جريدة المدينة

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store