اعتدتُ أن أقول لزملائي من الشباب في مهنة الصحافة، إذا ما همّوا بعمل ميداني، كتغطية، أو تقرير، أو تحقيق، أو حوار، اسألوا أسئلة أطفال، لا تخجلوا من الأسئلة، فبعضها تصنع إجاباته أهم المانشيتات، أطفالنا بطبيعتهم، يُحسنون الدهشة، والدهشة تطرح أبسط الأسئلة وأكثرها عمقًا في بعض الأحيان.
وجريًا على عادة صبيان الصحافة، يطرح دينيس روس، مستشار أوباما الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، سؤالًا من تلك النوعية التي يظنها البعض ساذجة أو عبيطة.
روس، الرجل الذي عمل مع بوش الأب، وبيل كلينتون، وأحد صُنّاع معاهدة وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل، يسأل في مقال نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: لماذا يتحدَّث القادة في الشرق الأوسط، إلى فلاديمير بوتين، وليس إلى باراك أوباما؟!.
ويحاول روس الإجابة عن «سؤال الأطفال» الذي يطرحه، مشيرًا إلى أن لدى الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط أصولًا للقوة تتفوق عشرات المرات على ما لدى روسيا في المنطقة، فواشنطن تحتفظ في المنطقة بـ35 ألف جندي، وبمئات الطائرات وعشرات القطع البحرية، والكثير جدًا من الحلفاء والأصدقاء، بينما أصبح لروسيا في المنطقة ألفا جندي وخمسون طائرة وبعض القطع البحرية، ومع ذلك فإن حضور روسيا في أزمات الإقليم يبدو ملحوظًا وفاعلًا.
من وجهة نظر روس الذي عمل مستشارًا لأوباما على مدى عامين مددهما إلى ثالث بعد اندلاع ثورات «الربيع العربي»، فإن الفارق الجوهري بين أوباما وبوتين، هو إرادة الفعل، فالأول منسحب، والثاني متقدم، الأول (أوباما) محملًا بأعباء حروب بوش الابن، ينتهج سياسة تسعى بكل السبل إلى تجنب التورط المباشر في صراعات مسلحة، ما لم تكن ذات صلة مباشرة بأمن الولايات المتحدة، أو بمصالحها الحيوية المباشرة، والثاني (بوتين) مدفوعًا بعناد باتجاه محاولة تعويض ما سقط من السلّة السوفيتية خلال سنوات الانهيار العظيم، يرى في التراجع الأمريكي فرصة لا ينبغي تفويتها، لتوسيع مناطق نفوذ لروسيا في الشرق الأوسط، عند تخومها الجنوبية.
ما حدث، أن أسلوب أوباما الذي لخّصه الصحافي الأمريكي جيفري جولدبرج، في حواره المطوّل مع الرئيس الأمريكي تحت عنوان: «عقيدة أوباما» هو وصفة للتراجع المنظم، أو للهبوط الإمبراطوري الآمن، لأمة يبدو أنها فقدت حماسها لبناء أضخم إمبراطورية عرفها التاريخ الإنساني في مسيرته كلها.
بحسب دينيس روس، فسياسات أوباما المتراجعة، مثّلت عنصر الغواية لمنافسه الروسي بوتين، الذي لم يتردد في التقدم لاحتلال مواقع متقدمة في سوريا وشرق المتوسط، بأقل عتاد وبأعلى نتائج. أما بحسب هنري كيسنجر أحد أبرز وجوه الدبلوماسية في القرن الفائت كله، فإن روسيا أمة تتدحرج، ككتلة ضخمة فتدهس أممًا أصغر وقفت في طريقها.
يقول كيسنجر في كتابه «النظام العالمي»: إن روسيا الخائفة، من الجوار، آثرت عبر تاريخها الطويل، أن تتدحرج فوقه بكتلتها الثقيلة، فتسحقه، مشيرًا إلى أن مساحة روسيا قد تضاعفت عدة مرات خلال قرن واحد، بسبب اعتقاد الروس أن التوسع الإقليمي هو وحده الذي يضمن أمن روسيا. ويشير كيسنجر إلى أن روسيا توسّعت بين عامي ١٥٥٢ و١٩١٧ بمعدل مائة ألف كيلومتر سنويًا لتصبح أكبر دول العالم اتساعًا على الإطلاق.
هل يبدو بوتين قيصريًا أكثر من أسلافه القياصرة؟!.. هل الخوف وحده هو ما يدفع روسيا إلى التقدم باتجاه منطقة الشرق الأوسط؟!.. عند كيسنجر فإن شخصية روسيا التاريخية، بما في ذلك مخاوفها الأمنية، قد تكون بين محددات السلوك الروسي في الشرق الأوسط الآن، أما عند دينيس روس فإن عقيدة أوباما «الانسحابية» ربما وفرت عناصر غواية إضافية للروس، ولهذا- كما يقول روس- يذهب قادة الشرق الأوسط إلى روسيا، ويتواصلون مع بوتين، بينما لا يحظى أوباما بحفاوة مناسبة في زيارته الأخيرة للمنطقة.
أغلب دول الشرق الأوسط، تعرف الآن حقيقتين، أولاهما أن أوباما قد دخل طور البطة العرجاء مبكرًا، فأصبح صديقًا لا يمكن الاعتماد عليه، أما الحقيقة الثانية، فهي أن مشكلات المنطقة لن تنتظر دخول الرئيس الأمريكي المقبل إلى مكتبه البيضاوي بعد ثمانية أشهر من الآن، ولهذا فلا بأس من المناورة مع بوتين، والمداورة مع واشنطن، إلى أن ينجلي المشهد، عن حقائق جديدة يمكن البناء فوقها.
أسئلة صبيان الصحافة.. وإجابات شيوخها
تاريخ النشر: 13 مايو 2016 02:46 KSA
اعتدتُ أن أقول لزملائي من الشباب في مهنة الصحافة، إذا ما همّوا بعمل ميداني، كتغطية، أو تقرير، أو تحقيق، أو حوار، اسألوا أسئلة أطفال، لا تخجلوا من الأسئلة، فبعضها تصنع إجاباته أهم المانشيتات، أطفالنا ب
A A