Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

تقاليد القراءة.. من كتاب الجيب إلى التليفونات الذكية!

A A
أشياء كثيرة تحدث أمام أعيننا، تمرُّ أمامنا من دون أن ننتبه لتحوّلاتها الصامتة والقويَّة، وهي جزء من يوميَّاتنا المتغيِّرة باستمرار. من ذلك، العادات القرائيَّة التي تصاحبنا، فتنبت فينا لدرجة أن نظنَّ أنَّها جزء من ثوابتنا التي لا يمكن تركها، أو التخلِّي عنها، إلى أن يأتي ما يهزُّنا ويُكذِّب يقيننا. فيعصف بها الزمن، ويفرض مكانها أنماطًا قرائيَّة جديدة لم نحسب حسابها، بل لم نتخيَّلها أبدًا، في غفلة كليَّةً منَّا. وعندما نفتح أعيننا نجد كلَّ شيء قد تغيَّر نهائيًّا. القراءة ليست كتابًا فقط، ولكنَّها ممارسة، ومناخ، ووسائل تساعدنا على جعل القراءة متعة وليس عقوبة. في البداية التي عايشناها مباشرة أو من خلال أفلام الخمسينيَّات، كان القارئ يستمتع بفعل قراءة جريدته الصباحيَّة، وهو يشرب قهوته، أو ينتظر موعدًا مهمًّا. يجلس على كرسي في حديقة جميلة، ثمَّ يختفي وراء يوميَّاته الكبيرة الحجم لدرجة أن تغطي وجهه وملامحه. منذ اكتشاف الصحافة المكتوبة، أصبحت هي وسيلة القارئ لممارسة حريته، والخروج من متاعب يوم ثقيل مكرر، والتمتع بتغذية الروح. تطورت ممارسة القراءة، وأصبحت متحرِّكة أكثر، فغادرت المقهى وتوجهت نحو الحديقة، والساحات العامَّة، ووسائل النقل. يركب الإنسان وتحت إبطه الأيمن جريدته، وبمجرد جلوسه، يبدأ في تفحصها متناسيًا كل محيطه. التصقت الجريدة بالإنسان القارئ، حتَّى تحوَّلت إلى جزء من حياته. هذا لم يمنع قراءة الكتب من أن تستمر في انتشار أنماطها محددة سلوكيَّات البشر، وهم في السرير أو بجانب مدفأة، إذ لا يمكن تصوّر القراءة في القرن التاسع عشر، خارج هذه الأمكنة التي توفر مناخًا كماليًّا جميلاً. وتمنح فرصة للمشترك في مناقشة النصِّ مع آخرين. فقد أصبح الإنسان ينتزع من وقت نومه، وأحيانًا راحته وعمله، ليضيفه إلى حياة موازية، يكتشف فيها عوالم قد تفرحه، وقد تبكيه من خلال فعل القراءة، وتُغرقه في تفاصيل عالم افتراضي، يهرب القارئ نحوه لتحقيق بعض الحاجات الذاتيَّة والنفسيَّة، تجعله يعيش حياةً، أو حيواتٍ في وقت واحد، الكثير منها تشكِّل له مهربًا. يكفي هنا أن نتذكَّر شخصيَّتين روائيَّتين عظيمتين من الأدب العالمي: دون كيخوتي دي لامنشا، بطل سرفانتس، الذي حوَّلته القراءة إلى كائن آخر لم يكنه من قبل، إلى فارس جاء من أجل الفضيلة في زمن غير زمنه، فاتُّهم بالجنون. ومدام بوفاري لفلوبير، التي قادتها القراءة إلى اكتشاف عالم غير عالم البؤس الذي كانت تعيشه، ولم يكن مناسبًا لها قبل أن تنتهي بها حالة الانفصام والخيبات إلى الانتحار بتناول السُّمِّ. لم تكن القراءة فعلاً ضافيًا، ولكنَّها كانت جزءًا مهمًّا من الحياة. لا مكان محدد للقراءة، مساحاتها تتَّسع وتكبر، وربما تزداد جمالاً. قد يقرأ القارئ روايته خلال جولته، في حديقته أيَّام نهاية الأسبوع، فيتمدَّد على الحشائش بين الورود، أو على ساق حبيبته، ويغرق في قراءة جمل وحروف الكتاب، ناسيًا كل ما يحيط به. وقد تقرأ المرأة روايتها المفضَّلة في مكانٍ سرِّيٍّ، حيث لا أحد يراها، وكلَّما سمعت صوتًا، وضعت الكتاب في خزانتها السريَّة، كأنَّه شيءٌ محرَّمٌ، أو كأنَّه حقيقة مخيفة وسريَّة. الزمن وتحوُّلاته ومكاسبه التكنولوجيَّة جعلت القراءة وأنماطها ووسائلها تتطوَّر أكثر فأكثر. فتمَّ تخفيف الكتاب المقروء بجعله صغيرًا، وخفيف الورق، لا يحتل مساحة واسعة، فتحرَّرت اليدان أكثر والجسد. فكان كتاب الجيب في أوروبا واحدًا من أجمل اختراعات القراءة؛ لصغره، وخفَّته، وجماله، وعطره أحيانًا. أينما مددنا البصر، في محطات القطارات، والمطارات، والساحات العامَّة، في الحافلات، وغيرها، رأينا قرَّاءً منتشرين كحبَّات القطر. أصبح كتاب الجيب من أنماط الحياة، ووسيلة لكسب الوقت بتعب أقل، وبلذة أكبر. الإنسان يقرأ في كل الوضعيَّات، ماشيًا، صامتًا، متسائلاً، وحتَّى متحدِّثًا أحيانًا، متمدِّدًا، جالسًا على كرسي، أو متكئًا على حائط. القراءة أصبحت عدوى، ومظهرًا حياتيًّا وثقافيًّا. إلى أن احتلت التليفونات الذكيَّة كل المساحات، وسرقت الأضواء من الكُتَّاب، وبدأت الجريدة الورقيَّة تغيب لصالح الجريدة الإلكترونيَّة المحمَّلة في التليفون، ووفرت التليفونات الذكيَّة مساحات جديدة للقراءة، والتواصل، واللعب، وسماع الموسيقى، ممَّا جعل القراءة في خطر. لم تعد المساحات التقليديَّة تعجُّ بجمهور الكتاب، كما كان ذلك قبل سنوات قليلة. لا يمكنك أن ترى اليوم شخصًا بلا هاتف ذكي، يتحدَّث أو حالة سكون. لا كلام بين الناس. فهل مات الإنسان؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store