Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

«موافق.. موافق..!»

A A
هل تذكرون (حمود الفشقة)، ذلك النجم الخارق للعادة في ملاعب كرة القدم؟! وهل تذكرون نهايته المأساوية..!! تتلخص مأساة ذلك النجم في كلمتين: «موافق.. موافق..!»، لم يستطع نجمنا الآفل أن يقاوم العروض الوهمية التي أسالت لعاب مخيلته البائسة، وأحلامه الأكثر بؤسًا.. وهي على ما يبدو حال شريحة لا بأس بها من مجتمعنا، شريحة لا تزال تلهث وراء دورات الوهم وتطوير الذات.

كنتُ ولا أزال أشعر بحموضة من توجه المجتمع لهذا النوع من الأنشطة، سعيًا إلى اكتشاف الذات وإخراج العملاق و(تحفيز المارد بالتبطح على الجمر البارد)، مؤمنًا أن هذه وسيلة الكسول الراغب في الكبسولة السهلة للتطور والتحسن، مثلها مثل جيوش الحالمين بالثراء الوهمي في الأسهم والمساهمات وغيرها، لكن بعض الأصدقاء من الناصحين كان يوصيني بالاعتدال في الرأي، والتريث في الحكم، لأنه يرى أنها أنشطة مفيدة ومصدر تعلُّم يُناسب طريقة تفكير صنف من البشر.. وكنتُ أذعنُ، ونصف كوبي فارغ!!

لقد كنتُ ولا أزال أُوجِّه اللوم الأكبر على أولئك المدربين، أو مدربي المدربين، أو مدربي مدربي المدربين، أو على مدربي..... (لا أعلم أين وصلوا الآن!!).. لاستغلالهم حاجة الناس الساذجة في تحسين أوضاعهم، وبيعهم الوهم باسم تطوير المهاراتِ، المدفونةِ منها والمضغوطة والمشوية على الجمر البارد، كنتُ أرى مشكلتين أساسيتين في هذه الظاهرة: الأولى تتعلق بجشع معظم المدربين ودكاكين التطوير الظاهر في أسعار هذه الدورات، وكم من متدربٍ صار مدربًا بحقيبة مكوكية وقبّعة سحرية منذ اليوم الأول للدورة، أو قبل ذلك.. أي منذ استلامه إيصال المبلغ الذي اختلسه دكان التطوير أو المُدرِّب النحرير، المشكلة الثانية التي كانت تلعب في حسبة مرارتي، هي عدم احترام التخصصات الملحوظ في راكبي هذا البساط: بساط الوهم السحري.. فنجد أشباه متعلمين ينبرون للحديث بخلطة عجيبة المقادير عن قضايا دقيقة في علم التحليل النفسي، أو علم الاجتماع، أو علوم الاتصال المختلفة، ونجد معلمين وأساتذة جامعات ووعاظًا استهوتهم فكرة الشهرة وأغرتهم الألوف في جيوب المساكين والسذج، فباتوا بين ليلةٍ وضحاها يخبطون خبط عشواء في كل فن وكل لون.

حين كنت في بريطانيا، لاحظت النزعة العجيبة للكثير من شبابنا في تطوير مهاراتهم في صناعة الوهم: شاهدتهم يتنافسون على تنظيم الدورات (ونفخ الذات) في جوانب مختلفة يستعرضون فيها عضلاتهم النحيلة على المبتعثين والمبتعثات؛ مررتُ مرة بقاعة في جامعة شهيرة، فوجدتُ شابًا متوشح الطموح يقدم دورة لجمهور من المستجدين عن كيفية تجاوز اختبار اللغة الإنجليزية، وكان يخطئ أخطاء بدائية فادحة في نطق وترجمة الكلمات الأساسية.. وقد علمت لاحقًا أنه طالب دكتوراة في السنة الثالثة في تخصص هندسي.. مدرب آخر (معتمدُ الوهم) يقدم دورة متقدمة في مهارات التفكير النقدي، وآخر في مناهج البحث العلمي وفي الحوار وغيرها... كل هؤلاء لم يكونوا على علاقة بالتخصصات الدقيقة التي تنتمي لها هذه المجالات... ولكن لم لا: ما دامت القاعات تكتظ بالمضحوك عليهم وعليهن.. والجيوب تكتظ بأموالهم وأموالهن.. لم لا!!

كنتُ ولا أزال أشعر بالأسى.. والحموضة.. وأتذكر نجمنا الغابر.. فأيقن أنه لم يكن في عبارته الشهيرة يعلن موافقته ببلاهة.. بل كان مكتوف الحيلة، مدفون العملاق.. كان حمود الفشقة يستنجد صارخًا: «موافق.. موافق..!»...

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store