Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

ماضٍ سلف وآتٍ خلف

A A
كثيرًا ما يترحَّم المتقدِّمون بالعمر مثلي على أيَّام زمان لبساطتها وقناعتنا بها وهنائنا وراحة بالنا، وألفة ومودَّة بين الأهل والجيران. لكن الأهم من كلِّ ذلك، الرضا بِما قسم الله لنا من أرزاق. وقد كان صغيرنا يوقِّر الكبير، وغنيُّنا يعين الفقير دون منَّة أو تشهير. كنَّا نعرف بَعضُنَا بعضًا حتَّى بالأسماء. لم تكن المعيشة مكلفة. ريالات فضيِّة قليلة كانت تسدُّ احتياجات الأسرة من سكن ومأكل وكسوة. أمن وأمان في الأسواق. لم نكن نسمع بـ(الحارس الأمني) في الأسواق! بسطات تبديل العملات الأجنبيَّة وبجانبها دكاكين الذهب والمجوهرات كانت لا تقفل أبوابها وقت الصلاة، وإنَّما تغطَّى بستارة من القماش. أسواقنا كانت شعبيَّة، ولكلِّ سوق تخصُّصه بما يعرضه.. تكلفة المعيشة كانت في مقدور ربِّ الأسرة.

وسرعان ما تبدَّلت الأحوال! حلَّت الريالات الورقيَّة محلَّ الفضيَّة والجنيهات الذهبيَّة. وانتشرت البنوك وبطاقات الصرف والائتمان. طارت البركة، وارتفعت الأسعار! وزاد الطين بلَّة المراكز التجاريَّة و(المولات) التي تعرض العديد من منتجات العالم والاحتياجات من الإبرة إلى السيَّارة، كلُّ ذلك تحت سقف واحد، الأمر الذي قضى على متعة التسوُّق من المراكز الشعبيَّة الآيلة للزوال. وحوَّل الاتِّجاه إلى المولات للتسوُّق والتمشية لكامل أفراد الأسرة لما فيها من أناقة العرض وإغراءات الشراء لما لم يكن في الحسبان. أمَّا البطاقات الائتمانيَّة! فحدِّث بلا حرج. إغراء بالصرف بما يرهق ميزانية ربِّ الأسرة وقت السداد.

ولأنَّ الأمور بمجملها نسبيَّة. ولكلِّ جيلٍ أولويَّاته وتفكيره، فأبناء الجيل الجديد يرون أنَّ جيل الآباء والأجداد كان منغلقًا، ومعرفته بالعالم لم تتعدَّ حدود القرية والمدينة، إلَّا لمن كُتبت لهم زيارة الأماكن المقدَّسة في مكَّة المكَّرمة والمدينة المنورَّة، أو من التقى فيهما عرضًا من ضيوف الرحمن. أمَّا اليوم، وبفضل ثورة المعلومات وانتشار الفضائيَّات وسهولة التنقُّل بين بلدان العالم، فقد أصبحت الحياة أكثر متعة وبهجة! وأصبحت مائدتنا أكثر تنوُّعا بفضل منتجات دول العالم الغذائيَّة على مدار السنة. أمَّا عن الغلاء، فالأسعار اليوم إذا ما قيست بالذهب تبدو منطقيَّة ومعقولة. فالجنية الذهبي السعودي عيار 22 قيراطًا، وزن ثمانية غرامات، كان يعادل وقت صكِّه أربعين ريالًا، واليوم نحو ألف وستمائة. أي أربعون ضعفَا، وبالتالي مشتريات اليوم من السوبر ماركت بأربعة آلاف ريال ورقي، تعادل جنيه ذهب سعودي واحد، أي مائة ريال فضي، فما الغريب في الأمر!

التفكير المنطقي ليس بالضرورة مُصيبًا دائِمًا. لكنَّه بمنطق الجيل الجديد لا شكَّ على حقٍّ. ومهما كان الماضي جميلًا، فالحاضر الذي يبني المستقبل، وعماده جيله من أبناء وأحفاد هو الذي يبني الأوطان ويجاري الأمم.

لو خيِّرنا نحن جيل السلف بين الترحُّم على الماضي أو الاستمتاع بالحاضر! علينا اختيار واقع الأمر بلا جدالٍ. أيَّام زمان ولَّت وانقضت، وعلينا أن نشارك الجيل الجديد من أبنائنا وأحفادنا البهجة لولادة آخر نردِّد فيه معهم شدو سيِّدة الطرب العربي: قد يكون الماضي حلوًا، إِنّما القادم أحلى.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store