Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

واقع السياسة وعبرة التاريخ

A A
الإسبان هذه الأيَّام منشغلون بأمور كاتالونيا أكثر من انشغالهم بالكرة ورائديها ريال مدريد وبرشلونة.. وصديقنا الإسباني الكاتالوني حسبًا ونسبًا وولادةً القادم من برشلونة إلى مدريد، كان الأكثر انزعاجًا من الاستفتاء الذي أقرَّ المشاركون فيه انفصال كاتالونيا عن إسبانيا، وإقامة جمهوريَّة مستقلَّة عاصمتها برشلونة.

حلم تجَّار السياسة ولعبة المال واحتكاره بالانفصال عن الحاضنة الأم إسبانيا وتشكيل كيان مستقل لا يخفى على الصديق الكاتالوني.. فلقد سبقت هذه المحاولة محاولات عديدة قضى عليها الجنرال فرانكو في المهد، مصرًا على وحدة التراب الإسباني وتماسكه.

ومع أنَّ إقليم كاتالونيا كان قد حصل على امتيازات منحته نوعًا من الاستقلاليَّة إبَّان قيام الجمهوريَّة التي قضى عليها الجنرال. ولأنَّ الأمور رهن بأوقاتها، فبعد وفاة الجنرال وعودة الملكيَّة إلى إسبانيا دستوريَّة ديمقراطيَّة؛ الحكم فيها لممثلي الشعب، والملك رمز جمع الإسبان دون أن يتدخَّل في ما تقرُّه الأغلبيَّة البرلمانيَّة من أنظمة وقوانين لتسيير الحكم بموجبها.

ونظرًا إلى ما يتمتَّع به الكاتالان من قدرة على التحكُّم بالمال والصناعة والتجارة، فقد تمكَّنوا في مرحلة ما بعد الجنرال من الحصول على حكم ذاتي، ورفع العلم الكاتالوني إلى جانب العلم الإسباني.. أمَّا لغتهم التي يتحدَّثون بها فيما بينهم الآن، كانت محرَّمة عليهم في عهد الجنرال.. ويبدو أنَّ هذا ما شجَّع تجَّار السياسة للقيام باستفتاء من طرف واحد، فكانت محصَّلته المطالبة بالانفصال.

الصديق الكاتالوني يرفض الانفصال جملة وتفصيلًا. ففي حدوثه سيسهم في تفكيك الأمَّة الإسبانيَّة إلى عدَّة دويلات، وستتبعها دول أوربيَّة مجاورة، وهذا أمر لا تقبله معظم دول منطقة اليورو الحريصة على التضامن والتآزر لتقف صامدة في وجه القوى العظمى المتحكِّمة باقتصاد العالم.

يستشهد الصديق الإسباني الكاتالوني بما كانت عليه إسبانيا المسلمة من قوَّة ومكانة علميَّة وأدبيَّة سادت العالم.. ولمَّا وهن وتنازع ورثة الحكم من الأمراء والنبلاء المسلمين، تفتَّتت الدولة الكبرى إلى إمارات متناحرة فيما بينها، تطلب كلٌّ منها الحماية من العاملين على طرد من هو غير كاثوليكي من شبه الجزيرة الآيبيرية، فكان لهم أن قضوا على إسبانيا المسلمة، التى على مدى قارب الثمانية قرون، رفعت من شأن العلم والعلماء ونشر التعليم بين أطياف الأمَّة كافَّة مع تعدُّد الديانات والمذاهب. ويبدو للصديق الإسباني الكاتالوني أنَّ قطار محو الأميَّة قد عاد للحركة من جديد، ليعلِّم الجيل الحالي من الإسبان تاريخ أمَّتهم وأيَّام العزِ التي عاشها أسلافهم تحت خيمة مكارم الأخلاق، التي أرسى أوتادها نبي المسلمين محمَّد بن عبدالله. وأنهى بالتمنَّي على دول العالم العربي ألَّا تنجرَّ خلف المقامرين بالسياسة لتفتيت أوطانهم باسم القوميَّة والطائفيَّة، وأن تستنجد الكوادر البشريَّة العربيَّة بالعلم وحده، حتَّى يقطعوا الطريق على أمِّية العديد من السياسيين، الذين لا يعرفون تاريخ أمَّتهم وما قدَّمه أسلافهم للبشريَّة من تراث لا يزال المصدر الملهم في البحث العلمي للعديد من علماء الدول المتقدِّمة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store