Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

السعودية.. تغييرٌ سريع ومواكبة اجتماعية مطلوبة (٣)

A A
تتغير الظروف والأحوال من حولنا بسرعة.. وتتسارع الأحداث بدرجةٍ يصعبُ معها، أحياناً، مجرد متابعتها، فضلاً عن صناعة قرارات وسياسات للتعامل معها. رغم هذا، يبقى التركيز على صناعة السياسة الداخلية، بمعنى تحصين الوطن بالمواطن، وتسريع عمليات التنمية والتطوير، وصياغة هوية اجتماعية مُشتَرَكة متصالحة مع الماضي والحاضر والمستقبل، وتوسيع آفاق ومداخل المشاركة الشعبية، يبقى كلُّ هذا أهمَّ الأولويات للحفاظ على الأمن والاستقرار، وتحقيق الرخاء، وبناء الدولة القوية المتماسكة التي تصمد في وجه الأعاصير التي يموج بها العالم اليوم.

وإذ تطغى على عناوين الأخبار، في هذه الفترة مثلاً، ملابسات القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بكل دلالاتها وتَبِعاتها الكبيرة المتوَقَّعة، إقليمياً وعالمياً، نمضي في هذه السلسلة من المقالات مع دلالات عناوين أخبارَ داخلية في المملكة، وَرَدت أمثلةٌ عنها في المقالين السابقين، ولا تزال تترى وتتابع أمثالُها إلى اليوم في الصحافة السعودية، انطلاقاً من القناعة بالأولوية المذكورة أعلاه، وكونها الأرضية الصلبة للتعامل مع كل شأنٍ خارجي، نهاية المطاف.

صحيحٌ أن لمراكز القوى الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية دوراً في حماية الاستقرار أو في العمل على زعزعته في كل بلدٍ من العالم، وثمة دورٌ موجودٌ دائماً للأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية في هذا المجال. لكن تجارب تاريخية كثيرة تُظهر أن كلمة الجماهير يمكن أن تكون أحياناً هي الكلمة الأخيرة فيه. يحصل هذا حين تتوفر مقدمات وظروف مناسبة، أهمها أمران: الأول، شعورُ الجماهير بأن القيادة تعبر عن آمالها ومشاعرها وهمومها بصدقٍ وإخلاص، والثاني، توفير وترسيخ الأجواء النفسية والعملية التي تشعر معها الجماهير بأنها جزءٌ لا يتجزأ من عملية صناعة القرار وتنفيذه على أرض الواقع.

فحين تؤمن قاعدةٌ عريضةٌ من أبناء أي شعب بأن استقرار النظام السياسي في بلدها يُعبّرُ عن مصالحها، وأن في تغييره تهديداً لتلك المصالح. وحين تشعر تلك القاعدة بأنها، بهمومها وتطلعاتها وطاقاتها، باتت رقماً أساسياً في معادلة صنع السياسات، يصبحُ أقربَ للمستحيل زعزعة استقرار البلد، أو تهديد أمنِها، مهما كانت التحديات الخارجية كبيرة.

وهذا لا يحصل من خلال إطلاق الشعارات وصناعة البروباغاندا، وإنما من خلال إطلاق برنامجٍ لـ «جودة الحياة» في المجتمع، وتشجيع الثقافة والفن والسياحة والرياضة، و»تعزيز الوسطية والاعتدال»، و»تشجيع الاستثمار» والمبادرات من البورصة إلى حقل التعليم مروراً بحاضنات الأعمال ورُوّادها، و»تفعيل مشروع التوازن بين الجنسين في الخدمة المدنية»، و»دعم توظيف المرأة»، وترشيد «برامج التدريب الصيفي»، وزيادة برامج «التدريب المجتمعي»، ووضع «ضوابط جديدة لمنع إساءة استخدام السيارات الحكومية»، وإصدار «تنظيم جديد لجمعية الكشافة»، و»إعادة تصنيف فندق بالمدينة من 5 نجوم إلى نجمة»! تماماً، كما ورد في أخبار بضعة أيامٍ من الأسبوعين الماضيين على صفحات «المدينة» الغراء.

هذه «عناوين أخبار» تحصل في المملكة. لكنها، عملياً، ملامحُ عملية تغييرٍ جذرية تشمل شرائح المجتمع، نساءً ورجالاً وشباباً وأطفالاً، وتُغطي مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، على مساحة أرضِها الواسعة وفي مناطقها المختلفة. من هنا، فهي تحتاج لحاملةٍ مجتمعية ضخمة تتجاوز أُطُر الهياكل البيروقراطية وأنظمَتها الراسخة، في كل دولةٍ في العالم.

نحن نتحدث هنا عن نقلةٍ مطلوبة يمكن القول بأنها تدخل في إطار تشكيل ثقافة التغيير في المجتمع، ليتمكن من استيعاب قرارات التغيير الكثيرة، ومن تهيئة الشرط الاجتماعي والثقافي لتقبّلها والتفاعل معها، وتمكينها في النهاية من تحقيق أهدافها المطلوبة. وهي خطوةٌ تنقل مستوى البحث والتفكير في كل ما يتعلق بالتغيير في المجتمع، تدريجياً، من المستوى الشعوري الغريزي العفوي، الذي يعتمد على تراكمٍ سابقٍ من المعارف الذهنية والتجارب العملية التقليدية، إلى مستوى آخر يتم فيه توضيحُ طبيعة المسائل والأسئلة المستجدة بنوعٍ من التفصيل، ويضع المجتمع أمام تحدي التعامل معها بطريقة جديدةٍ مختلفة، يشعر فيها بمسؤوليته وبدوره وصلاحياته، ويدرك من خلالها أبعاد ما هو ممكن وما هو غير ممكن في كل مرحلة، ويعرف عَبْرها الترتيب المنطقي للأولويات في كل مجال.

بمعنى، إننا نتحدث عن عملية إعادة تشكيلٍ لوعي الإنسان بمعنى «التغيير» وشروطه ومتطلباته ومراحله وأولوياته. وهذه نقلةٌ لا يمكن أن تحدث بقرار سياسي، وإنما من خلال حراكٍ ينبري له المثقفون والإعلاميون والمُربّون والأكاديميون على وجه التحديد، وبشكل أكثر منهجيةً ومؤسساتية مما كان عليه الأمر حتى الآن. وللحديث بقية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store