Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

السعودية.. تغييرٌ سريع ومواكبة اجتماعية مطلوبة (٧)

إن قبول (الآخر) ومعه حقيقة وجود (الاختلاف) يحمل في طياته اعترافاً بـ(الأنا) الفردية أو الجماعية، التي يكون التمايز المذكور عن الآخرين أبرز تجلياتها وأسرعها في الظهور إلى ساحة الواقع. وإذ نرصد الحراك المتسارع في المملكة، والتفاوت الطبيعي في درجات الاستجابة للتغيير، بقوانينه ومآلاته، فإن الإعلام يصبح خط الدفاع الأول للحفاظ على التوازنات بين شرائح المجتمع المختلفة فيها.

A A
يستمر حديثنا في هذه السلسلة من المقالات عن دور الإعلام، مرةً أخرى، تأكيداً لوظيفته الحساسة في المجتمع بشكلٍ عام، وفي فترات التغيير الاجتماعي السريع والشامل تحديداً.

فعلى سبيل المثال، يبدو ظهور التنوع في طرق التفكير والحياة، فضلاً عن الأذواق والطبائع والأولويات، أحد الإفرازات الهامة لعمليات التطوير والانفتاح. فالتنوع والتعددية سنةٌ إنسانية وقانونٌ من قوانين الاجتماع البشري. وحين يُساهم الإعلام في التعبير عن وجود هذا التنوع، بمختلف أشكاله، فإنه يلعب دوراً إيجابياً في إخراج المجتمع من (التنميط) الذي عاش وُفق قواعده الصارمة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، خاصةً في العقود الماضية. ومثل هذه الممارسة لا تُعيد الأمور إلى نِصابها الاجتماعي الأصيل فقط، بل تؤدي، أيضاً، لاستعادة عنصرٍ آخر مهم لاستمرار وتطوير الحياة البشرية، يتمثل في حرية الاختيار. لأن الحرية كانت وستبقى من أهم الخصائص التي تُحقق ما يليق بالإنسان من كرامةٍ وتكريم.

ويأتي في نفس الإطار إسهامُ الإعلام في إحياء عملية التعارف مع (الآخر) أياً كان تعريف هذا الآخر، حتى في إطار المجتمع الواحد. فـ(الآخرُ) هنا تعبيرٌ عن وجود الاختلاف في المجتمع، والاختلاف، بعكس الخِلاف، أمرٌ محمودٌ في التجمعات البشرية، لأنه يخرجها من القواقع النفسية والفكرية والاجتماعية الناتجة عن (الانعزال) من ناحية، وعن ثقافة أحادية كانت سائدةً بمعناها السلبي الذي يحاول التأكيد على حشر أفراد المجتمع في (نموذجٍ) محدد المعالم والصفات، ترى الوصول إليه هدفاً سامياً من أهداف الاجتماع البشري.

لكن التحدي الذي يواجه الإعلام يكمن في قدرته الكبيرة على أن يُصبح مدخلاً لتعميق وترسيخ الفرز الثقافي والاجتماعي بشكلٍ متزايد. لأنه بطبيعته يستطيع تقديم منابر وقنوات تعبير تُمثّلُ جميع أنواع الانتماءات والخيارات والمدارس الفكرية. وتَظهر المشكلة حين تصبح الأداة الإعلامية وسيلةً للمبالغة في التمايز عن الآخر، وأحياناً إلى درجة التهجم عليه والحطّ من قدره. ثم تبلغُ المشكلة أَوجَها حين تخلق الأداة المذكورة قواقع جديدة، ولكن بتكنولوجيا حداثيّة هذه المرة. بمعنى أنها تُصبح فرصةً لخلق فضاءٍ داخليٍ مُغلقٍ على أفراده، يغلب عليه التلقين، وتتضاءل فيه مساحة التساؤل والنقد والمراجعة، ويُعاد فيه تجميعُ الأتباع حول منظومةٍ نمطيةٍ مُوَحّدةٍ من الأفكار والآراء.

إن قبول (الآخر) ومعه حقيقة وجود (الاختلاف) يحمل في طياته اعترافاً بـ(الأنا) الفردية أو الجماعية، التي يكون التمايز المذكور عن الآخرين أبرز تجلياتها وأسرعها في الظهور إلى ساحة الواقع. وإذ نرصد الحراك المتسارع في المملكة، والتفاوت الطبيعي في درجات الاستجابة للتغيير، بقوانينه ومآلاته، فإن الإعلام يصبح خط الدفاع الأول للحفاظ على التوازنات بين شرائح المجتمع المختلفة فيها.

وبغير مواجهة هذا التحدي بكل ما في الوُسع من إبداع وتخطيط في صياغة الرسالة الإعلامية، تُصبح وسيلةُ الانفتاح نفسُها أداةً للانغلاق والانعزال، ربما يكون مفعولُها أقوى من مفعول العزلة الجغرافية والثقافية. وتُضحي أداةُ التواصل بين شرائح المجتمع وسيلةً للانقطاع، ولتوسيع مسافات التباعد بحيث تُصبح شاسعةً في تأثيرها، حتى لو كان أصحابُها يقطنون في نفس الحيّ، وأحياناً في منزلٍ واحد!

إن انفتاحاً يحقق التنوع والتعارف ويفسح المجال لحرية الاختيار مطلوبٌ من ناحية المبدأ كما نؤكد دائماً. لكن تنزيل هذا المبدأ على أرض الواقع من خلال مشاريع وبرامج إعلامية تساهم حقاً في تطوير المجتمع والحفاظ على توازناته يحتاج إلى إحساسٍ كبير بالمسؤولية والأمانة قبل أي شيءٍ آخر. لسنا هنا في معرض الحكم على الضمائر والنيّات، لكن الفرقَ كبيرٌ بين مضمونٍ إعلامي محترف يحمل رسائل فيها عناوين التنوع والتعارف وحرية الاختيار، وبين مضمونٍ آخر يفسح المجال للعصبيات بمختلف أنواعها، تحت تلك العناوين نفسها.

وإذ تبدو مداخلُ التعامل مع التحدي وفيرة، لكن أحدها يتمثل في استعادة العلاقة بين الإعلام والمُثقَّف الذي يفهم أبعاد التغيير ويتقن التعامل مع متطلباته. لا ليفرض أجندته الخاصة على الإعلام، ولا ليُلغي الترفيه والسرور في جدول أولوياته، ولا ليفرض لغةً خشبيةً لا تفهمها سوى نخبٌ تعيش في الأبراج العاجية بعيداً عن هموم الناس وحيوية الحياة. وإنما لتوفر تلك العلاقة شروطاً وتوازنات تساعد على أن يحقق الإعلام دوره الحساس في مواكبة عمليات التطوير والتغيير السريعة في المملكة، على كل صعيد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store