Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

هل يعيد المبدع إنتاج نفسه في النهاية؟!

A A
سؤال معقد، كثيرًا ما طرحته الكتابة على نفسها من خلال النقد، دون أن تملك أجوبة مسبقة وجاهزة عنه. الأمر في النهاية يمس جوهريا الذات المبدعة التي تحمل في عمقها مبهما ملتصقا بهوية الإبداع وجوهره وخصوصيته. هذا الهاجس ليس حالة مقتصرة على الآداب والفنون العربية، ولكنها تمس الإبداع الإنساني عموما. السجال حول هذا الموضوع ليس جديدا. فقد صاحب المبدع في بداية علاقته بالطبيعة وهو يحاول أن يخضعها لإرادته، بالكتابة والرسومات البدائية التي تسجل حياة البشر في صراعهم مع الحياة، وانتقالهم من مرحلة لمرحلة. فهل سجلت مثلا رسومات الطاسيلي أنجر بالصحراء الجزائرية، حياة وخصوصيات الرسام؟. الذي رسم أو الذين رسموا على الصخور، صوروا حياة أوسع من الذات الصغيرة، مجسدين نمط الحياة الصحراوية في كل تشعباتها. هذه الرسومات التي عمرها أكثر من 7000 سنة تم اكتشافها في نهاية القرن التاسع عشر، وعمَّقها أكثر الباحث الأركيولوجي الذي تخصص فيها، في الثلاثينيات، هنري لوت. نعم، وراء الرسومات أنامل رقيقة، وأحاسيس متشابكة معقدة، لكن الفعل الإبداعي يتخطى بكثير الحالة الذاتية باتجاه المشهدية التي يتداخل فيها الحقيقي بالتخييلي بالواقعي، الذي له إنتاجيته الخاصة وتوالديته. من هنا يجد السؤال الذي طرحته الدكتورة رزان إبراهيم، من جامعة البترا، منذ مدة قليلة: هل نكتب أنفسنا في النهاية، أم نكتب ما يتجاوزنا ويتخطى حدود الذات؟، المثال الذي أوردته عن الرسومات البدائية، يصب في نفس السياق ونفس الإجابة. نحن أمام حالة تفصل الكتابة عن الحياة، وكأن الكاتب لا ينجز شيئا سوى لاستعادة نفسه وذاته النرجسية، لتصبح هي المؤشر الكتابي الأسمى. نعلم جيدا أن لا نص نجح عالميا أو عربيا، لم يتمكن من تحقيق انفصاله عن الذات. أي لم يتحول إلى مجرد حالة عاكسة لتشوقات الكاتب وأيديولوجيته وثقافته الخاصة. الكاتب عندما ينجز عمله الفني، فهو حتما، اليد المنفذة لبناء عالم يتجاوز ذاته الخاصة، ويذهب بعيدا نحو ما هو أشمل وأعم. الكاتب موجود كمنفذ للمشروع الذي سيحمل اسمه، لكن العمليات التنفيذية العملية، هي شبكة تتجاوز الأنا الظاهرة التي يلمسها الناقد. لكن لا توجد أنا واحدة في العملية الإبداعية. هناك أنوات مهمة ومركزية غير مرئية، لها دور فاعل في العملية الإبداعية. هذا التقسيم بين مختلف الأنوات الفاعلة إبداعيا، أثبت التاريخ الإبداعي أنه غير موفق، لأنه يفترض المسافات والحدود المسبقة بين المبدع وأناه والمحيط. الحقيقة هي أن الكتابة تجمِّد الأنا الصغيرة وتشتعل على أنا أوسع تجتمع فيها الذات ونزواتها ومخيالها ورؤاها، والذات الاجتماعية التي تمر عبرها وتخترقها، فتخلق أنا ثالثة لا علاقة لها، لا بالأولى ولا بالثانية. أي أننا عندما نخلق نموذجا لشخصية ما، لا يمكنه أن يكون نحن، وإلا سنكون قد خسرنا رهان الكتابة. فكيف نفسر شخصيات فكتور هوغو المتناقضة في نوتردام؟ ما العلاقة بين رجل عاقل مثل الكاتب وكازيمودو أو حتى إيزميرالدا؟ كيف نوازن بين شخصيات الجريمة والعقاب وخصوصيات الكاتب. ما الذي يجمع بين راسكولينكوف والعاشقة سيميونوفا من جهة وديستوفسكي من جهة ثانية. نعرف أن ديستوفسكي بقي في الحبس من 1850-1854، لكن هذا لا يعني شيئا سوى أنه ساعده عن الانفصال عن الذات الخاصة إلى الحالة العامة، مستفيدا من تجربة الحبس. هناك طبعا مناطق للتقاطع، ولكنها جزئيات. وثلاثية نجيب محفوظ السيد أحمد عبدالجواد وزوجته أمينة وابنه كمال، لا يمكن أن يكونوا مجرد انعكاس لشخصية نجيب محفوظ، حتى ولو كانت الشوارع التي ذكرها هي نفسها التي عاش فيها الكاتب. كيف نجمع في روايات الكاتب الواحد، بين المجرم والضحية والقاتل والمقتول، والمجنون والعاقل؟، فمنطق الكتابة لا يُحلّ بالموازاة مع الحياة والفردية، ولكن مع النص نفسه الذي يخلق نظمه وفكره ومساراته، وشخصياته، التي تختلف حتما عنا، وإلا سيتحول كل شيء إلى مجرد انعكاسات ذاتية على مرايا مكسورة لا تظهر أي شكل بوضوح. ومن قال إن الذات تبقى ذاتا خالصة بعد أن تخضع لكل تلك التحولات الداخلية النصية والأيديولوجية والثقافية؟!.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store