Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

السعودية.. تغييرٌ سريع ومواكبة اجتماعية مطلوبة (٨)

A A
هل نرى في مجتمع المملكة التأثير الذي يُفترض أنَّ الأكاديميين قادرون عليه؟ السؤال مشروعٌ في ظل ما هو معروفٌ من حقائق تتعلق بساحة التعليم العالي في هذا المجتمع.. فمن ناحية، ثمة مئات الآلاف من المُبتعثين الذين درَسوا خارج المملكة على مدى العقود القليلة الماضية.. ومن ناحية ثانية، كانت هناك، ولاتزال، مشروعات لإنشاء وتطوير الجامعات السعودية، يندر وجودُ مثلها في بلدٍ عربيٍ آخر.. أما على المستوى الشخصي، فالمرء يعرف عشرات الشخصيات الأكاديمية السعودية، التي يمكن اعتبارها في مصاف النخبة الأكاديمية على المستوى الإقليمي، وأحيانا الدولي، علمًا وخبرةً وسعة اطّلاع، ويسمع عن مئاتٍ من أمثال هؤلاء، إن لم يكن أكثر.

من الواضح أن كثيرًا من أفراد الشريحة المذكورة تتواجد في مختلف أوساط الماكينة الحكومية السعودية.

لكن هذا التواجد، بصفته (البيروقراطية)، يحتاج إلى مزيدٍ من الجهد لكي يتحول إلى حضور، داخل تلك الماكينة، وخارجها بالتأكيد.. وربما أكثرَ من هذا، ليُصبح لاعبًا رئيسًا في (مواكبة) عملية التغيير السريع والجذري، التي نتحدث عنها في هذه السلسلة من المقالات.

لاحاجة لإعادة التأكيد على دور المثقف في نهضة وتقدم أي مجتمع، خاصةً في خضم عمليات التغيير.. لكن مايجب التركيز عليه، مرارًا وتكرارًا، أن هناك دورًا خاصًا لايمكن أن يقوم به سوى المثقف ذي الأفق الأكاديمي.. فالرؤية الأكاديمية تعطي آفاق واسعة لكل ظاهرة في المجتمع، لايمكن إبصارها بمعزلٍ عن الأدوات المنهجية والبحثية التي توفرها تلك الرؤية، والخبرة المرتبطة بها.

فالبعض يرصد الظواهر ويُحللها انطلاقًا من ثقافةٍ عامة وخبرةٍ شخصية وذكاء فطري لديهم. بالمقابل، يملك الأكاديمي طُرق بحث علمية تفرض عليه قوانين صارمة في كل مرحلةٍ من مراحل التحليل.. يصدق هذا من مرحلة صياغة الأسئلة أو الفرضيات المتعلقة بالموضوع الذي يدرسه، مرورًا بجمع البيانات وترتيبها وفرزها واستقرائها، وانتهاءً باستخلاص النتائج التي يصل إليها.. وإذا كان الأكاديميون ممن مارسوا البحث العلمي وفق مدارسه المختلفة يعرفون عما نتحدث، فهناك شكٌ أن يدرك غيرهم من الناشطين في بعض مجالات الثقافة والإعلام الدلالات الدقيقة للمصطلحات الواردة في الأسطر القليلة الماضية.

فاستخدام مصطلحات (التحليل) و(الدراسة) و(البحث العلمي) و(المنهجية) شائع في أدبيات الثقافة السائدة، وأحيانًا إلى حدّ الابتذال، دون أن يكون لتلك الكلمات الدلالات الأصيلة المرتبطة بها.

فوق هذا، يمكن تفعيل الحراك الأكاديمي داخل الجامعات والمعاهد العلمية ليصبح حراكًا منتجًا فعالًا يتعامل مع قضايا الواقع ومشكلات الحياة، وليجب عن أسئلتها، ويقدم الحلول العملية لمشكلاتها.. بعيدًا عن البحث في المسائل النظرية البحتة أو في أسئلة ومواضيع تُستورد أحيانًا من مجتمعات أخرى، لها همومٌ وحاجات مختلفة، وذلك بحكم الالتصاق بالدوريات والمؤتمرات العلمية.. والمهم أن يحدث هذا بروح المبادرة التي يجب أن تميز الأكاديمي المثقف، الذي لاينتظر الطلب أو الأمر حتى يتحرك بمهارةٍ وإبداع في ملعبه الأثير.

قد يتساءل المرء هنا عن أسباب غياب الأكاديمي عن القيام بالدور الذي يليق به والاكتفاء أحيانًا بالأدوار الهامشية.. وكما هو الحال مع أي ظاهرة أخرى، يمكن الحديث عن أكثر من سبب.

فمن جهة، يَقبل بعض الأكاديميين بمحاصرة أنفسهم في دوائر الفعل المحدود اقتناعًا بالرصيد المادي والموقع الاجتماعي لهم في المجتمع.. ويحصل هذا، أحيانًا، بسبب الكسل، بكل بساطة. أو بسبب حذرٍ مُبالَغٍ فيه يمنعهم من المبادرة، لرسوخ تصوراتٍ قديمة لديهم عن مساحات وحدود حركتهم الممكنة.. ولترددهم في التقدم إلى المساحات الجديدة التي تتسع دوائرها باستمرار مع عمليات التطوير والتحديث المتصاعدة.

ومن جهة أخرى، يتم تغييب هؤلاء بسبب اختطاف دورهم واحتكاره أحيانًا من قبل بعض النشطاء والإعلاميين الأذكياء الذين لايملكون كفاءة وآفاق ومنهجية وخلفية الأكاديميين، لكنهم يفوقونهم بمراحل في مهارات العلاقات العامة وتَصدُّر النشاطات والفعاليات، والظهور في وسائل الإعلام تحت مسمى (الخبراء) في هذا الموضوع أو ذاك.

وهذه ظاهرةٌ لاتقتصر على المملكة بطبيعة الحال..»لايستطيع علم النفس إخبار الناس بالكيفية التي يجب أن يعيشوا وُفقها. لكنها، بالمقابل، تستطيع أن تزودهم بالأدوات اللازمة لإحداث التغيير على المستويين الشخصي والاجتماعي».. هذه مقولة لألبرت باندورا، عالم النفس الأمريكي الأبرز، والمتخصص في حقل التعليم وصناعة الوعي الاجتماعي. قد لايرغب أحدٌ في أن يُخبره الآخرون كيف يجب أن يعيشوا حياتهم، لكن امتلاك أدوات التغيير يظل حلمًا يراود كل عاقلٍ في هذه الحياة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store