Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

السعودية.. تغييرٌ سريع ومواكبة اجتماعية مطلوبة (١٠)

A A
مضى أسبوعٌ، مع نشر هذا المقال، من قيادة المرأة للسيارة في المملكة، ولم يشهد المجتمع شيئًا مما كان البعضُ يتحدث عنه من الويلٍ والثبور وعظائم الأمور، فيما لو حدث مثلُ هذا التطور.. كان الموضوع (خبرًا) لمدة يومين، ثم أصبح شأنًا عاديًا مع بداية اليوم الثالث.. وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي، التي (يصنع) فيها كثيرون (أخبارًا) لأغراض متفاوتة، لم يكن ثمة جاذبيةٌ لتداول الحديث عن القضية باستغراب وطرافة أكثر من يومين أو ثلاثة، وانتهى الأمر.

يمكن استخلاص العديد من الدروس عند استقراء المشهد المذكور، خاصةً فيما يتعلق بمسألة التغيير، إن كان لجهة إمكانية حصوله، مهما كان الاعتقاد سائدًا بغير ذلك، أو لجهة آلياته وأدواته التي يُساعد وجودُها على تحقيقه، أو لجهة نتائجه التي لا ينبغي بالضرورة أن تكون سلبية، بل يمكن جدًا أن تكون في غاية الإيجابية.. وقد يكون أهم من ذلك كله ما يتعلق بثقافة المجتمع الذي يحصل فيه التغيير.. خاصةً إذا كان (الالتزام) الديني مكونًا رئيسًا من مكونات تلك الثقافة.

فقد كان سائدًا في بعض الشرائح المؤثرة على الأقل، وإلى زمنٍ قريب، الاعتقادُ بأن منع المرأة من قيادة السيارة في المملكة ليس فقط أحد أنواع ذلك الالتزام، بل إنه درجةٌ عالية منه. لكن شرائح واسعة في المجتمع نفسه لم تكن ترَى أن الأمر يتعلق بأصلٍ من أصول الدين، ولا بواحدةٍ من كلّياته أو قطعيّاته. ولا بالمشكلات التي تحيط بالمسلمين والعرب إحاطة السوار بالمعصم في مجالات عديدة.

على العكس من ذلك، كان هؤلاء يرون أن مصالحَ عامة كثيرة مُعطلةٌ بسبب تلك الطريقة في فهم الدين والالتزام به.. هذا فضلًا عما يكمن فيها من استصغارٍ للمجتمع، وللمرأة نفسِها، بداعي حفظها وصونها والغيرة عليها. وذلك وفق مقاييس صارمة للالتزام نتجت عن اجتهادات بشرية بحتة.

من هنا، كان طبيعيًا أن يستوعب المجتمع بسرعة القرار السياسي والإداري المتعلق بهذا الموضوع، وأن يظهرَ للجميع، عمليًا، إمكانية تجاوز الثقافة السابقة، دون حدوث أي هزاتٍ فيه.

ومما يعنيه هذا المثال المُعبّر أن درجة التقيّد بتلك المقاييس الصارمة التي وضعها البعض للالتزام ستنخفض تدريجيًا، وإن بشكل متزايدٍ وملحوظ. فهناك شرائح تزداد اتساعًا في المجتمع بدأت ترفض إلزامها بتلك المقاييس (ذات الخصوصية).. وهي تريد التعبير عن التزامها بالدين، ولكن في إطار الفُسحة الواسعة التي توفرها دوائر الاجتهاد والاختلاف في الرأي والأقوال عندما يتعلق الأمر بالفروع والجزئيات والمتغيرات.

أكثر من ذلك، يجب أن يهيئ البعض أنفسهم لاختيارات جديدةٍ كليًا يقوم بها البعض من أبناء المملكة قد لا تدخل في إطار (الالتزام) بمفهومه السائد. ورغم أن مجرد التفكير بمثل تلك الاحتمالات سيُصيب البعض بالهلع والرعب، إلا أن الأمر لا يعدو كونه انتقالًا من الإصرار على وجود (هالة التزام) مُصطنعة إلى الحالة الطبيعية التي عاشت وتعيش عليها جميع المجتمعات.

سيكون مطلوبًا بالتأكيد وجودُ حراك ثقافي واجتماعي متجدد ومبتكر ومنفتح للتعامل مع هذه الظواهر.. ويجب أن يكون الحراك السياسي والقانوني والإداري الموازي مرنًا وقادرًا على استيعابها.. لكن وجود تلك الظواهر لن يعني بالضرورة أن مجتمع المملكة سينهار، وأن نسيجها الاجتماعي سيتفسّخ، وأن هويتها ستضيع، كما يهوّل البعض ممن لا يعيشون في عالم الواقع.

التغييرٌ حتميٌ في المجتمعات، لأنه، ببساطة، سنةٌ من سنن الكون التي وضعها الخالق فيه.. وثمة مقولةٌ، تدعمها شواهد الحياة، تؤكد أن الثابت الوحيد في الدنيا هو وجود التغيير، أو كما يُقال بالإنجليزية: The only constant in life is change.. والتغيير يكون في كثيرٍ من الأحيان من أجل الاستقرار، وليس دائمًا سببًا للخراب والضياع. ومن طبيعة التغيير أن يبدأ صغيرًا، مثل نبعٍ فوار، لكنه يصبح نهرًا متدفقًا بالحياة والحيوية في كل مجال. كل هذا بشرطٍ واحد؛ أن تكون هناك مواكبةٌ اجتماعية، نظرية وعملية، له، تشارك فيها كل شرائح المجتمع. فهذا هو الضامن الأكبر لضبط توازناته واتساع دوائره بشكلٍ يجعله مدخلًا لحياةٍ طيبةٍ يستحقها الإنسان على هذه الأرض.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store