Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

هل استمعت قمة إفريقيا.. لكاغامي رواندا ؟!

لكن تجربة إفريقية واقعية ستفوِّت الفرصة على كل دعاة الإحباط وكل محترفي التعليل والتأويل، وما أكثرهم في إفريقيا.. إنهم أولئك الذين إن سألتهم عن الديمقراطية قالوا لك: إنها لا تصلح لشعوبنا! فإن سألتهم عن التنمية، قالوا لك: إننا تأخَّرنا كثيرًا!، فإن أتيتَ على ذكر التعليم، قالوا: إنه الإرث القديم!

A A
تأمَّلتُ في وجوه زعماء القارة السمراء، وأنا أُتابع قمّتهم الأخيرة في نواكشوط. والحق أن نشوة مباغتة غشيتني وأنا أستمع للحديث المطوّل عن مكافحة الفساد، وضرورة الإصلاح، وحتمية إسكات البنادق مع حلول العام 2020، وردَّدتُ: آمين.. آمين!

لقد بدأ تعرُّفي بالقارة الإفريقية عن كثب، من بوابة الجنوب، وتحديدًا من جوهانسبرج، حين كانت الفرحة تسع البيض والسود، وحيث كان الناس جميعًا يخرجون إلى الشوارع، يغنون للنصر وللأمل المنشود!

هناك في جنوب إفريقيا، كانت قِيَم التسامح والصفح، تبرز في السفح، كالشمس تُذيب كل ما مضى من غدرٍ ومن عنصرية ومن فساد ومن قُبح!

نزلتُ من جنوب إفريقيا إلى وسطها، ثُمَّ إلى شمالها قبل أن أنتقل إلى غربها.. وهناك في أكثر من عاصمة، رأيتُ الكذب يختال غرورًا، وسط جيوش أو صفوف أو أصناف من الخراب والمحن.. رأيتُ الغدر قد عشش في ركنٍ.. وسكن.. ورأيتُ الفساد يمشي أو يمرق في المؤسسات والشوارع، ويتحدَّث عن نفسه في العلن!

سمعتُ بأذني نعيق الغربان والبوم، ورأيتُ حقولًا وغابات من آلامٍ وجراح وهموم، ورأيتُ وكتبتُ عن النهار.. نهار القرن الإفريقي؛ وقد تحوَّل إلى ظلام بهيم.. كان الفساد ينخر في الصميم!

الآن، ومع بروز بشائر الأمل في النهوض من جديد، أشتاق كثيرًا للعودة إلى دول إفريقية زرتُها وهي تنهار قبل أن يطلع عليها النهار، أو يكاد من جديد. أشتاق لرؤية مقديشيو عاصمة الصومال، فلي فيها ذكريات وحكايات.

أشتاق للصومال الذي امتلأ رئيسه والشباب الملتفّون حوله، كراهيةً للإهمال.. أشتاق لرؤية كل الذين صمدوا وصبروا وانتفضوا بعد أن استشعروا دلائل التدهور والاضمحلال.

أشتاق لرؤية أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، فلي فيها مواقف وطرائف.. ورؤية نواكشوط عاصمة موريتانيا، حيثُ يحفظ الأطفال القرآن على أفرع الشجر.. أشتاق للعودة إلى جيبوتي وإلى أسمرة، وإلى داكار، وقبل هذا وبعده أحنُّ إلى الجزائر.

ها هي الإرادة الإفريقية تُبعث من جديد، وها هُم القادة الجُدد قد تعلَّموا وآمنوا أن الورد لا يمكن أن ينمو وسط الدم والحديد، وأن الشعب لن يصبح ولن يسمح بقسمة الأسياد والعبيد.. وأن الشباب الأحرار لن يفنوا عمرهم كله في مجرد السباحة ضد التيار.

في إفريقيا الآن شبّان وفتيات يُوصلون الليل بالنهار، ويترصَّدون كل محاولة لإنتاج طاغية جديد.. فإذا جاء، فلن يتركوه يقول ويفعل ما يشاء وما يريد!

ورغم تعدُّد الوجوه التي تحتفظ بها الذاكرة، لزعماء معارضة باتوا الآن في سدة الحكم، فقد حملقتُ كثيرًا في وجه بول كاغامي، ليس لكونه رئيس رواندا التي خرجت من مستنقع الدم؛ الذي أسالته قبائل الهوتو والتوتسي، وإنما لكونه بات رئيسًا للجنة الإصلاح المؤسسي بتكليف من القمة. لقد نجح كاغامي في تحويل بلده من مركز المجاعة والفقر، والمرض والفساد، إلى أيقونة للسياحة والقوة والثراء.. فما الذي فعله؟!

يقينًا، لو كنتُ مكان الرئيس الموريتاني ولد عبدالعزيز، رئيس القمة الحالية، لخصَّصتُ جلسة، بل جلسات للسيد كاغامي، كي يحكي للرؤساء وللشعوب الإفريقية ما الذي فعله الرجل على صعيد المصالحة الوطنية، والتنمية الحقيقية، والاقتصاد المزدهر؟!، ما الذي فعله كي يُخرِج الشعب كله من أتون اليأس والإحباط، إلى ساحات العمل والأمل، ومن برك الدم الذي سال بين القبيلتين المتناحرتين، إلى حدائق التسامح النبيل والصفح الجميل.

صحيح أن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون كان جالسًا وحاضرًا للقمة، وصحيح أنه لا مقارنة على الإطلاق بين فرنسا بإرثها القديم وواقعها الحديث وبين رواندا، لكن تجربة إفريقية واقعية ستفوِّت الفرصة على كل دعاة الإحباط وكل محترفي التعليل والتأويل، وما أكثرهم في إفريقيا.. إنهم أولئك الذين إن سألتهم عن الديمقراطية قالوا لك: إنها لا تصلح لشعوبنا! فإن سألتهم عن التنمية، قالوا لك: إننا تأخَّرنا كثيرًا!، فإن أتيتَ على ذكر التعليم، قالوا: إنه الإرث القديم!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store