Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

تغييب النقد والعقل.. والانهيار الوشيك!

ما جدوى استدعاء الثقافة الغربية المتقدمة، إذا كانت ستجعلنا نكتفي باليقينيات التي تربينا عليها؟، وننظر بعين الرضا الكلي للمحن الثقافية والتاريخية التي أدت بنا إلى التراجع الفكري الكلي. نحن نعيش اليوم حالة تخلُّف مدقع، لا جدال ولا سجال، لا عقل ولا اختلاف، لا حب بين العرب إلا الكراهيات التي تنمو بشكل جنوني وتشرف عليها مخابر ما وراء البحار التي تعرفنا جيدا

A A
ما نتلقاه اليوم من ثقافات عالمية، عبر مختلف الوسائط المعرفية، ونحن في كل هذا الدرك من السقوط والانهيار العربيين، يفترض أن يدفع بنا إلى التفكير الضروري باتجاه التغيير، لا إلى تبرير مآسينا التي تتعدد وتتسارع لدرجة أصبح فيها من الصعب المتابعة والفهم. بل نكاد نسلم بقدر النهايات التراجيدية، وإلا ما قيمة ثقافة غربية أصبحت جزءاً منا وفينا، نلون بها حياتنا الشكلية ولا تغير شيئاً في يقينياتنا المهزومة؟.
أكبر مقتل للمعرفة هو الإطلاقية واليقين. تعطيل كلي للعقل وصيرورة الحياة. ما جدوى استدعاء الثقافة الغربية المتقدمة، إذا كانت ستجعلنا نكتفي باليقينيات التي تربينا عليها؟، وننظر بعين الرضا الكلي للمحن الثقافية والتاريخية التي أدت بنا إلى التراجع الفكري الكلي. نحن نعيش اليوم حالة تخلُّف مدقع، لا جدال ولا سجال، لا عقل ولا اختلاف، لا حب بين العرب إلا الكراهيات التي تنمو بشكل جنوني وتشرف عليها مخابر ما وراء البحار التي تعرفنا جيداً. نحتاج حتماً إلى هزة قوية حتى ولو كانت مؤذية مؤقتاً، تزحزح الأتربة والأغبرة التي تنام على ظهورنا منذ عشرات السنين. يحتاج هذا الميراث اليقيني الكبير الذي شربناه مع حليب الخوف والهزائم، إلى هزة عنيفة تقرأ وتنتقد بحرية، لمعرفة جوهر الضرر وتخطيه. وإلا ما معنى الحرية الفكرية التي ننادي بها ليل نهار؟، أين هي المواطنة التي تُخرجنا من دائرة الرعايا، المنتظرين للتغيُّرات القَدَرِيَّة، إلى المواطنة الحقة، البناءة والفعالة؟، المواطنة التي نصبح فيها كائنات موجودة، لها حق الاختلاف وحب أوطانها بطريقتها. طرق الحب ملتوية ولكنها كثيرة وتصب في المعين نفسه، الوطن. نحتاج إلى مجتمعات فيها نبض الحياة حتى ولو كان ذلك من موقع الاختلاف. نحتاج إلى هوية مفتوحة تتلاقى فيها كل عناصر التكوين الجوهرية والفرعية، الهوية العربية والإسلامية، التي يجد فيها العربي حقه في الوجود، السني، والشيعي، والكردي، والشركسي، والمسيحي... من حيث الانتماء لأرضٍ واحدة، وهوية غنية مفتوحة على التطور والحياة، غير مغلقة على ذاتها. التاريخ الذي نعيش اليوم فصوله الدرامية يقول لنا إن الهوية ليست منجزا مغلقا، قد تم في حقبة ما وانتهى الأمر. لننظر إلى المثال العراقي أو السوري والليبي، القريبين منا، لنعرف مأسوية اليقينيات؟، كانت المواطنة في فترة ليست بالبعيدة، تسبق كل شيء، أنا أولاً عراقي، أو سوري، أو ليبي، قبل أن أكون شركسيا أو كرديا، وطرقيا (الطوارق)، وتأتي بعدها الهويات الصغرى المكونة. اليوم أنا شيعي أو سني أولا، عربي أو كردي، مسيحي أو مسلم، ثم تأتي المواطنة لاحقاً. هناك كسر كبير في كل المكوِّنات الحافظة لوحدة الشعوب العربية والإسلامية. الهوية اليوم تتحدد بالطائفة أو الجنس، أو الدين، وهو أمر خطير اشتغل عليه الباحث الصهيوني برنار لويس طويلا، وانتهى إلى النتيجة القاسية: جوهر المجتمعات العربية طائفي، قبلي، أو عنصري، ولا يمكنهم أن يكوّنوا دولاً بالمعنى الحديث مثل إسرائيل. لتفتيتهم، يكفي العمل على هذه العناصر المترسخة، وتعميقها بهدف إحداث شروخ عميقة لا يمكن رتقها. ويبدو أن التاريخ أعطاه بعض الحق. أقول هذا بمرارة. ما يحدث عربياً اليوم من تشظيات في البلد الواحد يبين أن نظريته هي التي تطبق اليوم لتفتيت عرب لم يعد ما يجمعهم كبيراً للأسف. فكرة المواطنة غابت أو تكاد، مع انهيار الدولة الوطنية الجامعة، أو حتى شبه الدولة. وموت الفكر القومي الذي قتلته بعثية جوهرها عنصري مهما كانت النوايا. اكتفينا بالمرايا التي تعكسنا على أحسن حال، ونسينا أن التاريخ أكثر من مجرد الرغبات الفردية أو الجماعية. نزعنا النقد والعقل من كل سجالاتنا ومنعنا الفلسفة في مدارسنا وبلّدنا أطفالنا كليا. حتى عندما يحاول البعض أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، لا يصل خطابه المعقلن جدا، لأنه ينشأ داخل دائرة شعبية من اليأس والأمية والتهتك المجتمعي. لا نقد خارج الأفكار، مهما كانت اختلافاتها، وخارج فعل الحرية ونقد المطلقات اليقينية السهلة. الحرية هي معمار المعرفة وقاعدته، وهي الوسيلة الوحيدة لتفادي الانهيار الكلي الوشيك.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store