Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

عفو البرلمان الإثيوبي عن الأوجادين

إضاءة

A A
أعادني تصديق البرلمان الإثيوبي على قانون العفو العام، وشطب حركات الأرومو والأمهرة والأوجادين إلى ذكريات «الصحفي الحزين»، المدونة باسمي في كتاب «أحسن الأعمال الصحفية» عام 1990م.

والحاصل أنني طفتُ في أنحاء إثيوبيا والصومال وجيبوتي وإريتريا، وعدتُ من هناك محملًا بالعديد من التحقيقات والحوارات الساخنة مع قادة تلك الدول، أهَّلتني للفوز بجائزة الصحافة العربية التي شارك في تحكيمها العمالقة مصطفى أمين وهشام ومحمد علي حافظ ومحمد عمر العمودي ومحمد صلاح الدين وأحمد محمود.. كان ذلك على حساب منافِسَة فذَّة، هي الكاتبة الكبيرة أحلام مستغانمي التي تقدَّمت بسلسلة تضم عملها العالمي «مسافر زاده الهبال».

أعود لقرار البرلمان الإثيوبي الخطير فأقول بكل تجرُّد: إن لغة الحوار باتت أمضى قوة من لغة السلاح.. وإن العفو والصفح الجميل أقوى من كل جدل، أو ثرثرة فارغة تصل أحيانًا حد الصياح، ولا أقول النباح.

وإذا كان العفو أو الصفح أو الاعتراف بحق الأرومو ومحو تهمة الإرهاب عنهم أمرًا طبيعيًّا؛ بحكم كون رئيس الحكومة الإثيوبي من أبناء الأرومو، بل من أبناء الحركة التي طال اتهامها بالإرهاب قبل أن يصل ابنها سُدَّة الحكم.. فإن تبرئة حركة الأوجادين جاء مفاجئًا ومدهشًا لكثيرين.

وقبل أن أتحدث عن الأوجادين، يطيب لي في هذا المقام أن أشيد كذلك بمحاولة الأخوة الصوماليين في محو أخطاء بل أحقاد السنين.. أتابعهم بفرح منذ حين وهُم يصغون لنداء العقل.. حالمين بصومال قوي وموحد وجميل وجديد.. بعزم كالحديد.

وأعود للأوجادين أو «الصومال الغربي»، ذلك الإقليم الواقع شرق إثيوبيا، وأتذكر أيامي الجميلة صحفيًّا والحزينة إنسانيًّا، وأنا أشاهد ملايين المسلمين المتمسكين بانتسابهم العربي والإسلامي، يتعرضون حينها لأبشع أنواع وأشكال الاضطهاد الذي وصل حد التجويع.

أتذكر جيدًا إبراهيم حسين خريج المدينة المنورة، وقبله أحمد حاجي عبدالرحمن الذي تخرج في أم القرى، وسافر لأمريكا، ثم عاد ليؤسس جامعة شرق إفريقيا.. أتذكر كذلك في معسكرات اللاجئين محمد عبدالله حسين، الذي بكى وهو يتحدث عن أهمية غرس روح جديدة في نفوس الأطفال، تبعدهم عن التعصب والتطرف.. إنهم الأمل الحقيقي للصومال.. أين هو الآن؟!

أعادني قرار البرلمان الإثيوبي بمحو تهمة الإرهاب عن الأوجادين إلى وجه آدم نور وسليه رفلي.. بل إنه أعادني للصومال الحقيقي الكبير.. كيف ولماذا قسَّمه الاستعمار لأكثر من صومال.. وكيف ولماذا شارك زعماء الصومال في التفتيت والتقسيم؟!.

كتبتُ ذات يوم رسالة منشورة للرئيس محمد سياد بري أُناشده كصحفي عربي بأعمال الحوار، وحين التقيته في القصر الجمهوري بمقديشو، كان الجنرال مورجن قد اختار لغة السلاح!

أتذكر هنا أيضًا وجه وزير الدفاع الصومالي آدم جيبو وهو من أبناء الأوجادين، كيف شارك بشكل أو بآخر في دك برعو وهرجيسة قبل أن تتم ترقيته من منصب لآخر؛ لينتهي به الأمر في النهاية إلى السجن!

أعادتني تبرئة الأوجادين إلى زمن الحرب البغيضة وعصر الفتنة الأليمة التي عصفت بهرجيسة وبرعو وبربرة وعرقابة وزيلع.. أعادتني إلى مقديشو التي كانت مؤهلةً لدور ريادي عربي إفريقي كبير، ولسوف تكون، ولسوف تقوم.

لقد جاء قرار البرلمان الإثيوبي بالعفو العام الذي شمل الأرومو والأمهرة والأوجادين؛ ليؤكد أن الصراع في القرن الإفريقي كان في معظمه صراعًا على الحكم.. على الكرسي.

وأن المعارك والنزاعات التي قامت بين التيجراي والأمهرة وبين الأمهرة والأرومو وبين هؤلاء وبين الأوجادين كان هدفها الحكم.

وأن الصراع بين الإخوة في الصومال.. بين الإسحاقيين والعيسى أو بين الطرفين من جهة والجودبرس كان هدفه الحكم.

وأن المدفعية الثقيلة لا يمكن أبدًا أن تعيد الاستقرار أو تُمهِّد للتنمية.. هذا ما أدركته مبكرًا ليس في إثيوبيا والصومال وإريتريا فقط، وإنما في عموم إفريقيا التي أحبها.

من حسن الطالع أن في إفريقيا الآن أزمنة ووجوهًا شاخت.. وعصورًا تنهار.. وفي الجهة الأخرى أزمنة ووجوه تشرق.. وظلام يحيله الشباب الواعد إلى نهار.

في إفريقيا الآن عقول تزمجر وقلوب ترتجف إذا جاءت سيرة العفو ولغة السلام.. لأنها تريد وتستفيد من استمرار الرعب والخصام على الدوام.. وفيها أيضًا عقول وقلوب تبتهج للصلح.. فإذا ألقي عليها السلام.. سعت إليه زحفًا على الأقدام.

تحية لبرلمان إثيوبيا، ولكل برلمان يدرك أنه في كل زمان ومكان، عقول تعشق المشانق وتهوى إشعال الفتن والحرائق، وأخرى تعشق العدل والمساواة والحرية، وتزرع الأمل في الخمائل والحدائق.

في إفريقيا الآن برلمانات تسعى لترسيخ قيم المروءة والشهامة والسماحة والوئام.. وأخرى تواصل التخبط في الظلام.. سلام عليك إفريقيا.. سلام.. سلام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store