Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

من «كهف تايلاند» إلى الكهف السوري: ضياع البوصلة الإنسانية

A A
عشرون يوماً مضت، مع كتابة هذا المقال، والعالم مشغولٌ باثني عشرَ صبياً تايلندياً علِقوا مع مدربهم في كهفٍ دخلوه على سبيل المغامرة، قبل أن تحاصرهم فيه مياه السيول والأمطار.

اللهم لا حسد. وحمداً لله على سلامتهم وعودتهم أحياء إلى عائلاتهم. ونأسف لعدم قدرتهم على تلبية دعوة الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) حضورَ المباراة النهائية لكأس العالم، لحاجتهم لمزيدٍ من النقاهة. ونبارك لهم تنافس شركات السينما العالمية على شراء حقوق قصتهم لتحويلها إلى فيلم هوليوودي. ونغبطهم على مقامهم الذي جعلَ فرق الإنقاذ تتقاطر من أنحاء العالم لمساعدتهم منذ بداية الأزمة. ونُعجب بفكرة حكومة تايلند بتحويل الكهف إلى متحفٍ أثري يصبح «مصدر جذبٍ سياحي كبير» حسب تصريحات مسؤوليها.

لايَسَعُنا، حقاً، عرباً وسوريين، وبشراً قبل كل شيءٍ آخر، إلا الفرح لخروج صبيةٍ أبرياء من محنتهم بسلام. فهذا حدٌ أدنى من الشعور الذي لم يعد ضرورياً فقط لاستمرار التعايش الإنساني في هذا العالم، بل لبقاء معنىً لـ «الإنسانية» بحدّ ذاتها.

في نفس الفترة تقريباً، كان ثمة أهوال، تُذكّرُ بيوم القيامة، تحصل في محافظة درعا بجنوب سوريا. إذ تم تهجير أكثر من ٢٧٠ ألف مدني خلال أيام، فضلاً عن قصف الأسواق والمستشفيات والبيوت الآمنة، ومقتل وجرح الآلاف. ظَهرَ هذا الرقم بتصريحٍ رسمي من محمد هواري، المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لوكالة فرانس برس للأنباء. على إثرها، كان أقصى ما استطاع النظام الدولي الكريم إنتاجه متمثلاً في تحذيرٍ مشكور للأمم المتحدة بإمكانية حدوث «كارثة إنسانية» في وقتٍ قريب.

هل يكفي الكلام عن ضياع البوصلة الإنسانية في هذا العالم كوصفٍ لحال المفارقة بين الخبَرين أعلاه؟ هل يوجد ثمة من يريد أن «يفرك الجرحَ بالملح»، كما يقول المثل، لإيصال رسالةٍ يجب أن يفهمها السوريون، من خلال إظهار تلك المفارقة بالذات؟ هل بقي لمصطلحات «النفاق» و»المقاييس المزدوجة»، عندما يتعلق الأمر بالإنسان وقيمته وحقوقه في هذا العالم، أيُّ معنىً يمكن استخدامه في هذا المقام؟

نعم. المسألة السورية مُعقّدة. وهناك، بالتأكيد، نصيبٌ للسوريين فيما تعانيه الغالبية العظمى من مواطنيهم. لكن المشهد المجنون يفرض نفسه بشكلٍ تعجز معه قدرة العقل البشري على الفهم والتحليل. وبدرجةٍ تجعله يُضيف سؤلاً آخر مهماً للأسئلة أعلاه: ألا يستطيع النظام الدولي بكل جبروته إيقاف المذبحة في سوريا، بأي طريقةٍ، ومن مدخلٍ إنسانيٍ بحت؟

وفي انتظار الجواب من مدخل السياسة، قد يمكن القول إن حال العالم اليوم تُعبر عن هزيمة منظومة الأخلاق والفلسفة والثقافة والحقوق العالمية، وكل ما له علاقة بها من فنون وآداب وتعبيرات حقوقية وجمالية وإبداعية. يمكن لتلك المنظومة المعاصرة أن تكذب على نفسها بالتأكيد. يستطيع أهلها أن يكذبوا على الناس، ويأخذوا أبصارهم بعيداً عن مثل هذه المشاهد، باعتبارها، نهايةَ المطاف، أحداثاً هامشية يعيشها ناسٌ هامشيون، لايتوقف معها التاريخ.

كيف لا؟ ولمَ لا؟ وأصحابها يؤلفون المسرحيات، وينتجون الأفلام، ويكتبون الشعر والروايات، ويُنظمون المعارض، ويقدمون الجوائز، ويرسمون وينحتون ويُغنون ويرقصون في مواقع كثيرة من هذا العالم.

المخيف في المسألة أن الأمر ينجح عادةً في التاريخ البشري: بمثل هذه الطريقة يتم الهروب من علامات احتقان النظام الدولي، حتى تنفجر مشاكل الاحتقان المذكور بالجميع في نهاية المطاف.

لامفرﱠ فيما يبدو، من إعادة التذكير، مراتٍ ومرات، بالجملة التي لخَّص الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان رأيهُ في السياسة من خلالها قائلاً: «من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة»!

ما يجري، عملياً، يبدو الشاهدَ على وصول السياسة الدولية إلى التماهي الكامل مع أقدم مهنةٍ في العالم دونما الشعور بحاجةٍ للمناورة أو التمويه. وبمعزلٍ، حتى، عما قد يكون لدى أهل تلك المهنة أحياناً من أعذار.

لايصلح هنا أيضاً أي تفسيرٍ للأحداث يلجأ لمنطق المؤامرة. فهذه الأخيرة تبقى محكومةً بدرجةٍ من العقلانية الضرورية لضمان ألا تفلت الأمور من كل سيطرة.

يبقى، فقط، كتفسير، أن ما يجري جزءٌ من التخبّط الحقيقي الذي يتلبس واقع الإنسانية اليوم، وفي القلب منه النظام الدولي، ويسمح بمشهدٍ عالمي تطغى عليه مهازلُ تخالف قوانين الاجتماع البشري. والمؤكد أن مزيج المهازل والتخبط وضياع البوصلة الإنسانية قابلٌ لاشتعالٍ يمكن أن يؤدي لحريقٍ كبير.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store