Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
م . طلال القشقري

وا حسرات على غدير البنات!!

A A
أنا من أهل الطائف الذين عَشِقُوا في طفولتهم «غدير البنات»، وهو وادٍ يقع جنوب شرق الطائف، وكان معظم أيّام السنة يسيل بمياه الأمطار وكأنّه نهر، وقد سُمّي هكذا لغرق سبع بناتٍ فيه من البدوّ الرُحّل في قديم الزمان!.

كُنْتُ في طفولتي ووالديّ -يرحمهما الله- وإخوتي نقيل على ضفافه، وما أحلاه من مقيل، وأذكر كيف كانت أمّي تصنع لنا الشاي بالنعناع الطائفي من مائه الصافي، بل الأصفى من كلّ أصناف المياه التي تُباع حاليًا، وكان أبي يشوي لنا الكباب، أو يطبخ السليق الطائفي بلحم الخروف الطازج، ثمّ نُحَلِّي بمعمول التمر الذي كانت أمّي وأخواتي يصنعنه في البيت، في جوٍّ أُسَري مُفعمٍ بالعواطف الصادقة، ممّا تفتقد لمثله جُلّ العائلات في الحاضر المتدهور اجتماعيًا!.

وكُنْتُ رغم صِغَرَ سِنِّي أحفظ أبيات الشعر التي تُنظّم عنه، ومنها:

غديرُ البناتِ ينسابُ حُلْوًا.. كلُجَيْنٍ في خِفّةِ الأُفْعُوَان!.

هذا في الزمن القديم والجميل، أمّا في الحاضر فليتني لم أذهب إلى الغدير قبل أيّام اشتياقًا وفضول معرفة لما صار إليه، إذ كان جافًا تمامًا، وليست المشكلة في جفافه، فالمطرُ من الله، وأسباب قلّته ممّا كسبته أيدي البشر، بل المشكلة في حالته السيئة والمُهملة التي لا تليق بأحد أهمّ المعالم السياحية في الطائف، فلا ترى فيه الآن إلّا جبالا قد عَلِقَت بكُلُّ عُشْبةٍ فيها أكياس نفايات النايلون الطائرة التي رماها النّاس، حتّى غدت الجبال مثل لوحة قبيحة، بُنّية وثُلاثية الأبعاد، وفيها نقاط تُشوّهها، مُتعدّدة الأشكال والألوان!.

كما احتلّته قرود البابون المتوحّشة والنهمة للطعام، والتي تُذكّرني من كثرتها بفيلم «كوكب القرود»، ولا يجاورها إلّا الإبل النافقة، والكلاب الضالّة، والقطط المتشرّدة!.

وحتّى الشيء الحضاري الوحيد وهو الجسر الخرساني المُقام فوق الوادي قد لطّخته وشوّهته أيدي النّاس بكتاباتهم اللا مسؤولة!.

فواحسرات على غدير البنات، لقد كان رغم قلّة المال في أزهى الحُلَلَ، وكان نظيفًا لنظافة رُوّاده، وكانت البلدية تعتني به مع تواضع الإمكانيات، أمّا اليوم ورغم كثرة المال فهو في أبشع حال، وأصبح مرمى للنفايات وتجمّعًا للحيوانات، وليت الجهات التطويرية والسياحية تلتفت إليه، وتُضيفه لأجندتها، وتُعيد تأهيله، تخليدًا لتاريخه واحترامًا لذكريات من عَشِقُوه، وما أدراهم إن فعلوا ذلك قد يُفجّر الله ينابيعه، ويُجْرِي جداوله، مثل الماضي، فيفرح القاصي، ويزهو الداني!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store