Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

هيستيريا الرواية!!

هيستيريا الكتابة، أدت بالضرورة إلى هيستيريا قراءة الرواية وإهمال الأجناس الأخرى بشكل شبه كلي. فقد أصيب القارئ في مقتل، إذ بمجرد عبوره عتبات المكتبات، أو المعارض، لا يطلب شيئا آخر إلا الروايات التي سمع عنها، أو قرأ عنها. قبل أن يكتشف أن ما يقرأه ليس بالضرورة عظيما، لكنه يظل يبحث عن المبررات، مادامت هذه النصوص قد شاركت في الجوائز العربية الكبرى

A A
الرواية ظاهرة التهمت كل الظواهر الأخرى، أو سحبتها نحو المراتب الأخيرة. شيء يثير الدهشة والاستغراب، ولكن أيضاً التساؤل، هل ما يحدث ظاهرة طبيعية أم أنها جاءت استجابة لحاجة ثقافية وحضارية، أم لانتشار الجوائز العربية والاعترافات التي تمرّ بالضرورة عن طريق الرواية؟. من حيث المبدأ، لا مشكلة. من حق أي إنسان أن يكتب في الجنس الذي يشاء، وباللغة التي تريحه، لكن الواقع الثقافي وتسيُّد جنس دون آخر، بشكل يكاد يكون كلياً، يدفع بنا بالضرورة إلى التأمل. مثال بسيط عن ذلك، الجزائر التي لم تعرف، على مدار عشرات السنين، إلا روايات قليلة، تستعد في معرض الجزائر القادم بعد أقل من شهر، لاستقبال ما لا يقل عن مائتي رواية باللغة العربية وحدها. بين داري الجزائر تقرأ، وبوهيما الشابتين، قرابة المائة رواية ستكون في المعرض.. غير ما تنشره الدور التقليدية والعريقة المعروفة، عامة كانت أو خاصة. شيء فيه الكثير من الدهشة، إذ لا ناقد، مهما كانت حصافته، كان يتصور هذا الكم الكبير من الروايات، في زمن قياسي. مما يدل على أن المسألة ليست وليدة الصدفة، ولكنها الابنة الشرعية لنظام ثقافي ما، تحركه الجوائز. طبعا، الجوائز وحدها قد لا تفسر الظاهرة وانتشارها الكبير، لكنها أساسية. هناك حالة تشبه الهستيريا. هيستيريا الرواية. أزن كلامي جيداً. شاركت في العشرين سنة الأخيرة في لجان تحكيم الكثير من الجوائز العربية رئيساً أو عضواً، وأستطيع أن أشهد أن ما نراه اليوم غير مسبوق أبداً. الكثير من الكتاب يكتب ولا يراجع فقط للحاق بالجائزة. في سباق محموم. فكرة الجائزة نبيلة لأنها في النهاية تثمن نصاً أو مجموعة من النصوص، لكن المشكلة الكبرى في الكتاب والمؤسسات الطابعة والقراء. لا يكتفي هذا النوع من الكتاب بهذا فقط، بل يضع في رأسه فكرة الفوز التي يحولها إلى يقين، وهو لم يعط لروايته حتى حق تدقيقها. متأكد من أن هذا سيقتله على المدى القصير، لأنه يدل أن الكاتب لا يقرأ ولا يزن نصه في أفق ما قرأه من نصوص تأثر بها. الكثير مما نقرأه للأسف، سيكون مصيره الإهمال. نعم الأدب ظالم، ولكنه في حالات مثل هذه، يدافع عن حقه في الوجود. من المؤكد أن هناك تجارب أصيلة كثيرة تستحق كل الاحترام، وهي التي تفوز عادة، لكني أقصد التسرع والأوهام، بالخصوص بالنسبة للجوائز التي تقبل بالمخطوطات، وهذا أمر يحتم تأملاً كبيراً. المخطوطة ليست في النهاية كتاباً، لكنه مشروع مؤقت، قابل للتغير والتحول.

هيستيريا الكتابة، أدت بالضرورة إلى هيستيريا قراءة الرواية وإهمال الأجناس الأخرى بشكل شبه كلي. فقد أصيب القارئ في مقتل، إذ بمجرد عبوره عتبات المكتبات، أو المعارض، لا يطلب شيئا آخر إلا الروايات التي سمع عنها، أو قرأ عنها. قبل أن يكتشف أن ما يقرأه ليس بالضرورة عظيماً، لكنه يظل يبحث عن المبررات، مادامت هذه النصوص قد شاركت في الجوائز العربية الكبرى،

ووصل بعضها إلى القوائم الطويلة أو القصيرة، أو الفوز، لابد إذن أن تكون استثنائية أو فيها قدر من الجمال. مع أن الكثير من النصوص ليست بكل ذلك القدر الذي يتخيله القارئ الذي أصبح جزءاً من دائرة الهيستيريا المتحكمة في كل شيء، بما في ذلك الدائرة الإعلامية. الأكثر حيرة هو أن هناك نصوصاً عربية كثيرة تقع خارج الجوائز، لأنه تم تصنيعها داخل الفيسبوك، فتحصل على الطبعات المتعاقبة والتوزيع الخرافي. الذي يجب أن يتنبه له النقاد، هو أن توزيع عدد كبير من النسخ لا يعني أن القراءة بخير. الكثير من القراء ينجرّون نحو الظاهرة لأنها كبيرة ومتسعة، فيشترون الكتاب الذي تحول إلى موضة، لكنهم بمجرد وصولهم إلى بيوتهم، يرمونه في الزاوية المهملة، ويكتفون بما عرفوه إعلامياً عن الرواية لا أكثر.

بين دور نشر يهمها الربح بالدرجة الأولى لأن الجنس الأكثر ضمانة تجارياً هو الرواية، وبين كاتب يستجيب لمعطى الحاضر الثقافي والأدبي، وبين قارئ داخل دوامة له ضلع فيها لأنه بدونه تخسر الرواية انتشارها، وبين الناشر أيضاً، أهم منشط للفعل الروائي في الساحة الثقافة، بين هذه الأقطاب، تنشأ الهيستيريا الروائية. الأمر غير مقتصر على العرب، لكنه عالمي. الفرق الوحيد هو أن الضوابط التي تصنع التوازن هناك، وتحافظ على القيمة، متوفرة، على العكس من البلدان العربية حيث يختلط الغث بالسمين بشكل معطل لكل تمييز.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store