Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

صحافة مأزومة!

الصحافة الذكية هي مَن تستعد للغد بالذهاب إليه وليس بانتظاره، لكن الذهاب إلى الغد بات يستوجب الوعي بحقائق ومفاهيم جديدة أو مستحدثة، لقد أصبحنا بحاجة إلى تعريف جديد لمهنة الصحافي، وإلى تعريف متجدد لمفهوم القارىء، بعدما اختفى (المتلقي) أو كاد، فالقارىء لم يعد متلقياً، وبات بوسعه التفاعل، وإلى تحديد جديد لمعنى الخبر، ولطرق وأساليب ملاحقته وتقديمه.

A A
أتلقَّى رسائل شبه يومية من كُبريات الصحف العالمية، تدعوني إلى الاشتراك بدولار واحد أسبوعيًا، لكنني مع ذلك لم أشترك في أي من تلك الصحف، مكتفيًا بما أتلقاه يوميًا عبر بريدي الإلكتروني من أبرز عناوين صحافة العالم، ومقالات رأي لبعض كُتَّابي المفضلين، فضلًا، عن عناوين لدراسات أنجزتها مراكز أبحاث دولية متخصصة، أتخيَّر منها ما يتناسب مع اهتماماتي التي باتت بدورها تتغيَّر وتتبدَّل كثيرًا، ما بين السياسة والتكنولوجيا والاقتصاد والفن.

هذا حالي كصحافي، أفنى أكثر من أربعين عامًا في تلك المهنة الساحرة، كانت علاقتي بالصحافة الأجنبية، في عصر ما قبل الإنترنت، تنحصر فيما يمكنني الحصول عليه منها، وهو قليل جدًا، وقديم جدًا أيضًا، كنتُ أنتظر سفر بعض الزملاء أو رؤساء التحرير الذين كانوا يُرافقون الرئيسين السادات ومن بعده مبارك في زياراتهم الخارجية، للحصول على ما تيسَّر من نسخ تيسَّرت لهم على الطائرة، وكان الراحل الأستاذ أنيس منصور، يعرف عني هذا، فكان يُزوّدني لدى عودته بعشرات الصحف الأمريكية والإنجليزية، كلها كانت قديمة، مرَّت أيام على صدورها، لكنها كانت منهل معرفة ومصدرًا للسعادة والرضا رغم ذلك.

أستطيع الآن أن أتابع الصحافة العالمية لحظة إعدادها للصدور، بل وأستطيع بأدوات المهنة كصحافي وكاتب، أن أبني رؤية لبعض القضايا والمواقف من خلال متابعتي لعدد أكبر من الصحف والمواقع الإلكترونية، حول موضوع معين، تتيح جولة بشأنه في صحافة العالم، بناء رؤية بانورامية أحيانًا، تسمح بقدرٍ معقول من المعرفة بالموضوع والإلمام بالقضية.

لهذه الأسباب ولغيرها بالطبع، فإنني أتفهَّم أزمة الصحافة الورقية، وأعرف أن مستقبلها وراءها، وأن ما أمامها هو أن تُدرك سريعا مقتضيات اللحظة، وألا تقف بعناد أمام قطار التطوَّر التقني الكاسح، وكنتُ قد نبَّهت مبكرًا، قبل نحو عشرين عامًا، إلى أهمية أن تشرع الصحف الورقية في التحوُّل التدريجي إلى العصر الإلكتروني، بما يتسق مع التطور التقني المتسارع في هذا المجال.

الورق، والأحبار، وماكينات الطباعة، وماكيتات الإخراج والتنفيذ، كلها سوف تختفي وتتوارى معها حِرَف ومهن ارتبطت بصناعة النشر الصحافي، مثل مهنة الخطاط مثلًا التي اختفت من جميع صحفنا، ماكينات الطباعة ستذهب إلى المتاحف، كما ذهب أول جهاز فاكس رأيته في حياتي قبل سبعة وثلاثين عامًا، وكنتُ مبهورًا بما يتيحه لنا من قدرة على التواصل، كان الجهاز بحجم دولاب كُتب متوسط الحجم، وكانوا يضعون مقعدًا للعامل بجوار نافذة فيه، تخرج منها رسائل الفاكس، تُشبه نافذة خروج الحقائب في المطارات اليوم.

الصحافة الذكية هي مَن تستعد للغد بالذهاب إليه وليس بانتظاره، لكن الذهاب إلى الغد بات يستوجب الوعي بحقائق ومفاهيم جديدة أو مستحدثة، لقد أصبحنا بحاجة إلى تعريف جديد لمهنة الصحافي، وإلى تعريف متجدد لمفهوم القارىء، بعدما اختفى (المتلقي) أو كاد، فالقارىء لم يعد متلقيًا، وبات بوسعه التفاعل، وإلى تحديد جديد لمعنى الخبر، ولطرق وأساليب ملاحقته وتقديمه.

الأزمة الراهنة للصحافة الورقية والإلكترونية، ليس أزمة عابرة، لكنها تحوُّل عميق ينال من صميم فكرة استمرار الصحافة كما عرفناها على مدى عقود طويلة، أما قدرة الصحف القائمة على الاستمرار، فهي مرهونة في ظني، ليس بقدرتها على شراء واقتناء أحدث تقنيات الاتصال، وإنما بقدرتها على استيعاب مفاهيم جديدة في المهنة، تُوشك أن تقتلع مفاهيم قديمة حول من هو الصحافي، ومن هو القارئ، ومن هو الناشر.

العالم انتقل بالفعل من عصر الكتابة بالحبر على الورق، إلى عصر الكتابة الافتراضية (بالوهم) فوق ورق افتراضي على الهواء.. قدرة الصحافة على البقاء باتت مرهونة بقدرة صحافييها على المشى فوق الماء، والكتابة فوق الهواء، وهي قدرات لا تتطلب الإلمام بفنون السحر، قدر تطلُّبها للقدرة على استيعاب العصر والدخول فيه.

الصحافة لم تعد تُسابق بعضها البعض.. كل الصحافة الآن تلهث خلف ابتكار أشكال جديدة للعلاقة بقُرَّاء جدد، أغلبهم لم يُولد بعد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store