Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

لندن: بئر حي سوهو

بانوراما

A A
تاريخ العَالَم الإنساني الطبي يعجُّ بمواقفٍ وعِبر ومآسٍ، أشير هنا لانتشار الأوبئة؛ كوباء الطاعون الذي انتشر في القرن الثالث عشر الميلادي، ابتداءً من سهول آسيا الوسطى وانقضاءً بغربي أوروبا، مسهماً في القضاء على (30 – 60%

) من سكان الأرض في تلك الحقبة. ومرض الجدري الذي انتشر في المستعمرات بفعل هجرة المستعمِرين من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية وغيرها؛ كان سبباً لتعرُّض سكانها الأصليين إلى شتى الأمراض التي حملها المستعمِرون، وتسببت في وفاة أكثر من 90 مليون ضحية منهم.

هنا لا أنوي -أو هكذا أعتقد- أن أكون «سوّاق الشرشورة» كما يُقَال بالعامية، ولكن في التالي عبرة:

في الثامن من سبتمبر عام 1854 وبالتحديد في شارع برود بمنطقة سوهو في لندن، حيث كانت تلك المنطقة على غير ما هي عليه الآن تعجُّ بالسائحين والعابرين والمتنزِّهين، كانت منطقة مساكنها عشوائية ومكتظة بالسكان، وتخلو من أبسط أنواع أنظمة الصرف الصحي وتمديدات المياه العذبة.

إلا أنه وفي ذلك اليوم انتشر بهذا الحي مرض الكوليرا واستفحل فيها، وفتك بالعديد من قاطنيها، ما دفع الطبيب الإنجليزي وأحد مؤسسي علم الأوبئة (جون سنو) إلى العمل على حل معضلة انتشار المرض في هذا الحي بهذه السرعة؟.

كانت النظرية العلمية المعمول بها آنذاك هو أن المرض ينتشر عن طريق الهواء ويصيب بالاستنشاق؛ فلك أن تتخيل عزيزي القارئ قاطني لندن وهم يسيرون وعلى قبعاتهم الرياحين والزهور وعلى لباسهم جيوب مملوءة بالزهور والياسمين لجلب الروائح الزاهية وطرد الكريه!

إلا أن (جون سنو) قام -لربما مصادفةً كما يُرجِّح علماء اليوم- بعمل أول دراسة إحصائية طبية وحجر أساس لما يُعرف بطب الأوبئة أو طب المجتمع، أو ما يُعرف بالإحصاء الطبي في وقتنا الحاضر. بأن قام بعمل خريطة لأماكن الإصابات، ولاحظ قربها من مصادر الماء، كما أحصى أعداد الوفيات، والذين تماثلوا للشفاء، واحتسب نِسَبَهم، وهنا لاحظ (سنو) أن أشد الإصابات كانت حول بئر في شارع برود، وأن معملاً لصناعة شراب الشعير المسكر المجاور للبئر كان عاملوه غير مصابين بالمرض، (لأنه وجد أنهم يشربون فقط حصتهم من شراب الشعير الذي يسخن للغليان كإحدى خطوات تحضيره، ولا يشربون من ماء البئر مباشرة)، فحينها تيقَّن أن المرض لا ينتقل عن طريق الهواء، بل عن طريق شرب الماء الملوث ودخوله للجهاز الهضمي، ما حثّه على تقديم تلك الأدلة للسلطات، التي قامت بإغلاق البئر منهيةً هذا الوباء.

إن ما قام به (جون سنو) من أبحاث في مكافحة الأوبئة؛ مهَّد الطريق لمن جاء بعده من العلماء كالألماني (روبرت كوخ) والفرنسي (لويس باستور) إلى وضع أسس ومبادئ علم الميكروبات والأوبئة بمفهومه الحديث، كما أسهم عمله الإحصائي بالذات في تطويع الإحصاء بمفهومه الرياضي لخدمة الطب واكتشاف أسس التعامل مع الأوبئة والحد من انتشارها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store