Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

لماذا تتعثر الصحافة؟!

A A
أنتمي إلى جيل أُتيح له أن يُعايش عصر الصحافة التي تنفد طبعاتها مهما تعدَّدت، فقد عشتُ بنفسي مشاعر خيبة الأمل كلما أخبرني عّم عبدالهادي «أشهر بائع صحف في شارعنا»، أن الصحيفة التي أريدها قد نفدت نسخها.

لحظة خيبة الأمل التي تصيب قارئًا أخفق في الحصول على نسخته الخاصة من صحيفته المفضلة، هي ذاتها أغلى وأعز لحظات ناشر الصحيفة ورئيس تحريرها، وكافة محرريها، فقد حصلت صحيفتهم على الدرجة النهائية. كانت نسخ يوم الجمعة بصحيفة الأهرام، تنفد مبكراً، بسبب قُرَّاء مقال الأستاذ محمد حسنين هيكل (بصراحة)، ليس فحسب لبراعة الكاتب، ولا لروعة بيانه، وإنما لاعتقاد أغلب قرائه أن قُربه من صانع القرار، يجعله مصدراً لأخبار لن يجدوها إلا عنده. وهو ما تكرَّر لاحقاً مع صحيفة الأخبار ومجلة أكتوبر، إذ كان القُرّاء يعتقدون أن قُرب الأستاذين موسى صبري في الأخبار، وأنيس منصور في مجلة أكتوبر، من الرئيس السادات يتيح لهما الوصول إلى معلومات لا يصل إليها سواهما. أغلب الناس إذن يريد المعلومات والأخبار الموثوقة، ويسعى خلف مصادرها، لكن المعلومات والأخبار التي تتداولها الصحف الورقية اليومية، ما عادت تُلبِّي احتياجات قُرَّاء جلس أغلبهم أمام الفضائيات الإخبارية، وبرامج التوك شو، طوال الليلة السابقة، واطلع على معلومات وأخبار، تجاوز بعضها ما دارت به مطابع مؤسسات صحفية، لن تجد في الصباح مَن يشتري نسخها الورقية.

اعتدتُ طوال حياتي المهنية كصحافي، على العودة إلى منزلي كل مساء متأبِّطاً حزمة من مختلف الصحف بأكثر من لغة، من أكثر من دولة، ولم يكن ما أحمله معي من نسخ يقل بأي حال عن اثني عشرة مطبوعة ورقية، كنت أُطالعها في منزلي على مهل، فاحتفظ بقصاصات من بعضها، وبنسخ كاملة من بعضها الآخر، لكنني على مدى السنوات الخمس الأخيرة؛ أقلعتُ تماماً عن شراء نُسَخ ورقية، حتى من صحف تنشر لي بعض مقالاتي، فقد أتاح النشر الإلكتروني لي، ليس فحسب مطالعة ما أريد قراءته، وإنما أيضًا تخزين وحفظ ما أريد حفظه، بل والتفاعل مع المطبوعة أو الكاتب بالتعليق، وبالحوار، وبالمناقشة.

كل ما تقدَّم، هو أسباب ينبغي أن تحمل ناشري الصحف في كل مكان على تأمُّل واقعهم، بينما تجتاز صُحفهم ومطبوعاتهم طوراً بالغ الحرج، في مرحلة انتقالية تُشيَّع فيها الصحافة الورقية إلى متاحف التاريخ.

القارئ يريد المعلومة الآن، ويريدها حيثما كان، ويريد مناقشة الكاتب، والناشر، والقراء الآخرين، وهو لم يعد قارئاً منزوع السلاح، فسلاحه المعرفة التي باتت متاحة عبر عشرات المصادر الإلكترونية، أما الصحف التي تتطلع إلى البقاء والاستمرار في المنافسة، فإن عليها أن تعيد هيكلة كل شيء، من أول الفضاء العام الذي تصدر عنه، وحتى مبادئ وأخلاقيات المهنة التي بات تطويرها ونشرها وتثبيتها، مهمة وجودية بالنسبة لأي صحيفة، أو أي مشروع إعلامي. إعادة الهيكلة، ينبغي أن يكون هدفها حماية المطبوعة لا إغلاقها، وهو ما لا يتحقق بغير ترشيد الإنفاق، وتدريب فريق العمل على آليات وأدوات جديدة ومتطورة؛ تستوعب إيقاع العصر، وتُلبِّي تطلُّعات القُرّاء، والتمسُّك الصارم بقِيَم المهنة وبمقتضيات النشر تحت سقف قانون؛ يحترم حق الناس في المعرفة، ويسعى إلى تكريس الشفافية وصيانتها، باعتبارها إحدى لوازم بقاء الدولة ونهوض المجتمع ككل. إعادة الهيكلة سوف تقتضي بالضرورة، خفض حجم القوى العاملة بالمطبوعة، فضلاً عن ابتكار شكل جديد لعلاقات العمل، قد يكون من بينها مثلاً، تبنِّي نظام العمالة المؤقتة، أو الـ(فري لانس)، أو المقاولة من خلال التعاقد عبر جهاز معني بحماية قِيَم المهنة وحماية حقوق العاملين بها (نقابة الصحافيين مثلاً). تحتاج أي دولة إلى الصحافة للتواصل مع شعبها، ولتشكيل، وصيانة رأي عام لا غنى عنه لحماية صميم بقائها، وتحتاج الصحافة إلى مجتمع وإلى نظام عام، وإلى مؤسسات دولة، من أجل أن تزدهر المهنة، وترتقي بها الأوطان.

تستحق الصحافة أن تصبح «حماية صميم بقائها» مسؤولية وطن بكل أجهزته، وتستحق الأوطان أن تتشكَّل لديها مؤسسات صحافية تصون الحقيقة، وتعمل من أجل بلوغها وكشفها، وتبليغها للرأي العام.. دعم الصحافة مسؤولية وطن، ونشر المعرفة مسؤولية الصحافة، وحماية حق الناس في المعرفة مسؤولية الدولة بكل مؤسساتها.

الصحافة تتعثَّر في أعباء طور انتقالي فرضته ثورة تقنيات الاتصال، وهي تحتاج إلى من يقيل عثرتها في طور الانتقال الصعب.. لا نهضة بدون رأي عام، ولا رأي عام بدون صحافة قوية، ولا صحافة قوية بدون مجتمع يصون مقتضيات عملها في فضاء لا يحجب عنها شمس الحقيقة، ولا يحبس عن رئتيها نسيم المعرفة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store