Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

الوقت.. الوقت!!

A A
أستعيد ذكريات تقديس العمل، ومراعاة التقيُّد بمواعيده، كلَّما عدتُ بالذاكرة إلى أيَّامي الأولى من عام 1976 في أستكهولم. حيث كانت مواعيد العمل هناك تبدأ مع الساعة التاسعة صباحًا، ولكوني قادمًا من جدَّة، وغالبيتنا يُباشرون العمل بعد نحو ساعة من الموعد المقرَّر بحجَّة توصيل الأبناء إلى المدرسة، فقد كنتُ أُغادر المبنى الذي أسكنه في أستكهولم مع التاسعة صباحًا لأصل المكتب نحو التاسعة والنصف. كان بوَّاب العمارة يرمقني بنظرة لا تخلو من امتعاض، ويتجاهل تحيَّتي له بصباح الخير.

بالاستفسار من سكرتير المكتب السويدي عن سبب تجهُّم وجه حارس العمارة كلَّما شاهدني في الصباح، والسويديُّون، كما يُعرَف عنهم غير عنصريِّين، سألني عن موعد خروجي من المبنى؟. أجبته التاسعة صباحًا. ابتسم، وقال: هذا هو السبب. تخرج متأخِّرًا عن موعد خروج آخر دفعة من القوى العاملة بنصف ساعة. وهذا ما يدعو بوَّاب العمارة للاعتقاد أنك بدون عمل. جَرِّب أن تُصحِّح الوضع وتُغادر المبنى قبل الثامنة والنصف».

وفعلًا، أخذت بنصيحته، ليُقابلني بوَّاب العمارة بابتسامةِ وتحيَّة الصباح، ووصلتُ مقرَّ عملي قبل موعده بدقائق، فوجدتُ طاقم العمل من المحلِّيين ينتظرون حلول الساعة التاسعة؛ ليدخلوا المبنى دفعة واحدة، ويتَّجه كلُّ واحد منهم إلى مكتبه بهدوء. من ذاك اليوم التزمتُ التقيُّد بموعد عملي. ومع آخر يوم من عام 1975، انتقلتُ للعمل قي مدريد.. وأَصِل مقرَّ العمل مع التاسعة صباحًا من أوَّل يوم اثنين من عام 1976، لأجد باب المدخل مقفلًا. أضغط على الجرس الكهربائي عدَّة مرَّات، فأسمع صوت أقدام من الداخل، ويخرج حارس المبنى مستغربًا طرقي الباب في هذه الساعة المبكِّرَةِ. اعتذرتُ وتساءلتُ عمَّا إذا كان اليوم عطلة! فأجاب نافيًا، وأضاف بأنَّ العمل يبدأ عادةً نحو العاشرة صباحًا. سأل عن حاجتي؟، أجبته بأنَّني الموظَّف الجديد. رحَّب بي، وقادني إلى بوَّابة المكاتب، وأحضر لي كرسيًّا للجلوس بانتظار قدوم الزملاء.

عرفتُ فيما بعد من صديق أنَّ من عادة الإسبان النظر إلى الملتزم بساعات العمل على أنّه من المحتاجين للراتب الشهري، فلا يحظى بما يستحقُّه من اهتمام.. وأنَّ مَن يصل العمل متأخِّرًا عن موعده، فهو من المرفَّهين المترفين، ويحظى بالتقدير.

عدتُ في نهايات القرن الماضي إلى طوكيو لأُنشّط ذاكرتي باعتقاد اليابانيِّين أنَّ العمل عبادة، لأجدهم ما يزالون على عهدي بهم في ستينيَّات القرن العشرين. ملتزمين بمواعيد مباشرةِ عملهم صباحًا، ويستمرُّون به حتَّى تصفية كلِّ ما أمامهم من معاملات وإجراءات، ولو تطلَّب ذلك مواصلتهم العمل لساعاتٍ بعد الدوام. وهم لا يُغادرون مقرَّ العمل إلَّا بعد تأكُّدهم من مغادرة رئيسهم المبنى. ويسعد كلُّ عامل منهم تكليف رئيسه له بالعمل في أيَّام العطل، مع أنَّها بدون أجر، وتكفيه ثقة رئيسه به دون غيره.

ترى كم تحتاج مجتمعاتنا العربية من الوقت، لتلتزم بالوقت التزامها بمواعيد العبادة من صلاةٍ وصوم؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store