بين قمة جبل وسفح آخر!!

على الرغم من أن مكة المكرمة ــ شرفها اللهُ تعالى ــ تقع في وادٍ غير ذي زرع كما كانت عبر العصور والتاريخ؛ إلا أن الناس تأتيها من كلٍ فج عميق، ذلك استجابة لدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم». وكانت المعجزة الربانية أن تجد زوجته هاجر ماءً لرضيعها إسماعيل عليهما السلام في هذا الوادي؛ كما جاء ذلك في قصص الأنبياء. ثم جاء الإسلام وحفظ لمكة أهميتها وهيبتها وتعظيم شعائرها وجعلها هدى للعالمين، قال تعالي: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ»، وأوجبَ سبحانه وتعالي الحج -الركن الخامس من أركان الإسلام- إليها سنوياً دون غيرها، قال تعالي: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». كما تبين جغرافية مكة المكرمة، أنها تقع بين الجبال ذات الشعاب، وما القول المشهور عن أهل مكة: «أهل مكة أدرى بشعابها» إلا دلالة على كثرة تلك الجبال والشعاب. ومن أشهر جبالها التي استقبلت وحمت الرسالة الإسلامية: جبل أبي قبيس الذي يطل على المسجد الحرام وصحنه، هذا المكان الذي لا تحار وأنت فيه بالسؤال عن القبلة فأينما اتجهت تجدها أمامك، أقول: هذا الجبل الذي صدع رسولنا صلى الله عليه وسلم من قمته بدعوته أولَ مرة. وجبل النور حيث يقع غار حراء في رأس قمته، لذلك سُميَ جبل حراء في كتب التاريخ نسبة للغار الذي في قمته -قد تكون تسميته بجبل النور تعني ظهور بداية نور الإسلام من على قمته-، إنه المكان الذي بدأ فيه َتَنزُّل الوحي المبين، فهو يعتبر منشأ إشارات الوحي الأولى «اقرأ بسم ربك الذي خلق»، إنه مكان اعتكاف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وجبل ثور وغاره، والذي يعتبر توأماً لجبل النور، أقول: هو الآخر معجزة ربانية وانطلاقة مقدسة كامتداد لما حصل من معجزة بغار حراء، والفرق بينهما أن الغار في الأول في ذروة قمة الجبل والثاني عند سفحه. الأول كان للتأمل والتحنث والتحضير لاستلام الرسالة الربانية من جبريل عليه السلام والثاني كان مرحلة احتضان للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه للحفاظ على نور الدعوة وحماية لتلك البداية من كفار قريش في ذلك الوقت، وبداية للنصر المبين، قال تعالى: «إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا». وكانت بعون الله وتوفيقه البداية التي قلبت تاريخ العالم أجمع.