Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

ماذا تقول الفراشة للنار؟!

A A
الحياة هي ما تبقى فينا من نبض الشعر قبل النهاية المفجعة التي تسير البشرية نحوها بخطى حثيثة.. والشعر هو سفينة نوح التي لن تحمل هذه المرة، نحو جزر اللغة، إلا الشعراء الذين من جعلوا من الأمل قدرًا أبديًا ولم يستسلموا لظواهر الحياة الطارئة.. رأوا في ظلال المدينة الرمادية، نورًا آتيًا، لا ريب فيه.. من قال إن الشعر مات، فقد نسي أن للشعر بذورًا لا تموت.. ماذا تقول الفراشة وهي تقترب من النار؟ أن تكون رحيمة بها وتحرقها بأسرع ما يمكن لتخفف عنها الآلام بلمح البصر؟ أم أنها هنا بكبرياء العاشقة، على حافة اللهب، ترقص رقصتها الأخيرة ولن تأبه بالموت؟ لغة الشعر تقول إن رهان الحياة الحرية هو كل شيء في العملية الإبداعية إذ لا شيء بعدها لأن كل شيء سيبدو ثانويًا.. وإلا ما معنى أن نكتب شعرًا إذا خلا من المغامرة القدرية القاسية؟ كيف نفهم إذن جنون آرثر رامبو وهو يحمل نعليه على ظهره ويرحل نحو يمن لم يعد سعيدًا؟ وأحزان السياب الذي أنهكه الحب المستحيل؟ وموت الشابي مبكرًا وهو ينشد وطنًا لم يفرح له طويلاً؟ وعراك أدونيس مع لغة لا أحد غيره يعرف مسالكها وأسرارها؟ وأناشيد درويش الأخيرة عن وطن ما يزال غيمة هاربة، على تلال سرقها القتلة من حضن الأطفال.

أن نقول شعرًا معناه أن نملك قابلية القول الحر المفعم بقوة الداخل الصامتة وبالدفء الإنساني.. قول الشعر هو قول الداخل السري والمستعصي، والمقفل أحيانًا بمفاتيح رميت في قاع البحر، وعلى الشاعر أن يخرجها من المحيطات بحذر.. أن نكتب معناه.. أن نقبل أختام حرقة النار على صدورنا وتقاسم الأفراح السرية مع اللغة، ووشم الخوف على قلوبنا، ورعشة البرد في ذاكرتنا.

الكتابة الشعرية متعة داخل متعة الموت.. هي موت ينتفي في بذرة الحياة.. لهذا، كلما قرأت شعرًا، قصيدة أم مجموعة، أو ديوانًا بحثت تلقائيًا عن الإنسان المتخفي في اللغة وفي النص.. لا شعر بدون رهانات الإنسان الذي كلما غاب، شعرنا بعمق الفداحة وبالموت القريب.. لكن هل يموت الشعر دون موت الإنسان؟ عندما يقال إن الإيديولوجية تقتل الشعر، ليس كلامًا فجًا.. بل هو الحقيقة عينها.. الشعر مكتف بذاته، ولا يقبل الزوائد المنهكة له، لأنها لا تقتل اللغة فقط ولكنها تقتل الإنسان الذي تعبر عنه، الخارج من رحمها أيضًا.

ماياكوفسكي كان بذرة نور في زمن رمادي، استعرت حرائقه حتى أحرقت الشاعر نفسه.. الإيديولوجيا مقتل الشعر والحياة والتخييل.. تصطف اللغة لا بجانب فكرة وتقدسها، ولكن بجانب هاجس يحميها حتى من يقينها الأمارة بالدوران حول نفسها.. على العكس من الرواية التي يتحمل شكلها كل شيء.. ربما من هنا جاءت امبريالية الرواية وفكرة موت الشعر.. مع أن للشعر قوة داخلية تمنعه من الموت.. لأن موت الشعر هو ببساطة موت الإنسان.. لهذا يقاتل الشعراء ضمن أفق الأقليات الأدبية ليظل الشعر قائمًا حتى يستمر الإنسان في وجوده.. فعفويته أو لحظته الأولى هي المبرر العميق لكيانه ووجوده.

من هنا فالذين يقولون بموت الشعر لا يعرفون مطلقًا بأن هذا الموت إذا حصل يأخذ في مسلكه الحارق الإنسان كله ولن يبقي وراءه حتى اللغة التي هي هو، وهو هي.. وانتهاك الشعر اليوم هو انتهاك لطفولة الإنسان وللحظته الأولى التي تحتاج إلى استكانة محارب توقف أن يكون عدوًا لنفسه.. المشكلة إذن ليست في موت الشعر، ولكن في موت ارستقراطية لغته التي تسرقه من كم كبير من جمهوره الافتراضي وتدفع به نحو الخاصة الثقافية.

كانت حاملات القرابين والمنشدات في الشعر الإغريقي القديم، يتكلمن لغة تمس القلب، بعيدة عن الخاصة، وقريبة من الحكي اليومي والضرورة التي تحكم الإنسان داخل شرطية القسوة.. أية بلاغة قاسية كانت تسكن لغة هوميروس في الإلياذة والأوديسة؟ ربما كانت الاستعارة هي مقتل الشعر اليوم لأنها حولته إلى طلسم تتلذذ الاقلية بتفكيكه وفهمه.. لهذا، كثيرًا ما عمدت القصائد العالمية اليوم إلى الخروج من هيمنة الاستعارة وبلاغة الصورة المثقلة بالمترادفات، باتجاه لغة ببساطة وألوان ونعومة الفراشة.. الهايكو الياباني دليل قاطع على ذلك.. الشعرية ينشئها القارىء أيضا بتشغيل حواسه الحية، لتكتمل الدورة العلائقية.. الذهاب نحو اليومي والحدثي لا يفقد الشعرية قيمتها، والشعر تمايزه الجنسي.. من لغته الجديدة أصبح الشعر يشكل كياناته الجدية والحية، ليضفي على النص وعلى اللغة إيقاعه، ويعبر عن لحظة تأزم قوية تستوعبها كل الأشكال التعبيرية، من اللغة البسيطة التي تنشئ قوتها من داخلها، إلى لغة المحكي المجسدة لتراجيديا الجماعة.. ليست الاستعارة جريمة في حق الشعر إلا عندما يسلمها هذا الأخير كل أسراره التي منحته السمو والعلو.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store