Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

عن مصر التي رأيتها في معرض الكتاب

إضاءة

A A
كما يقول المصريون، كنتُ قد عشتُ لفترةِ ما يُشبه دور الاغتراب، وتقلَّبت في صورهِ وأشكالهِ، وتعاملتُ مع نفسي وطقوس حياتي على هذا النحو!

كنتُ قد درستُ تعريفاته وأطواره أثناء دراستي للفلسفة، ورحتُ أقيس حالتي على ما تعلَّمت.. فهو على وجه العموم، يكون بالنزوح عن الوطن، وهو أحيانًا الإحساس بالغربة في المكان داخل الوطن وبين الأهل.. والحق أنني لم أجد الحالتين تنطبقان عليَّ! فلا أحسستُ بالنزوح عن الوطن الساكن أو السابح في كريات دمي، ولا أحسستُ بالغربة بين أهلي وزملائي، لا في لندن، ولا في جدة!

فلمَّا رجعتُ لفلاسفة التعاقد الاجتماعي من أمثال: «هوبز ولوك ورسو»، وجدتُ أن الاغتراب هو التخلِّي أو التنازل أو التسليم، ووجدتُها كلها معان قاسية وظالمة!

على أنني استسلمتُ فترةً لـ»جان جاك روسو»، الذي يعتبر الاغتراب مرض العصر، الناتج عن شعور المرء بالتعاسة للحال السائد، والإحباط من محاولة إصلاحه!

وزاد من ميلي لنظرية الاغتراب عند «روسو»، أنه يردّه إلى المظاهر الحديثة الطاغية، من انقلابٍ في القِيَم، وما يتبعه مِن خضوعٍ واستسلام، وانحسار للعادات والتقاليد.

وكنتُ قد مِلتُ فترةً لرأي «هيجل»، في أن الاغتراب يمكن أن يكون تخارج الروح المبدعة وتخلِّيها عن توثبها للإبداع!

والحاصل أنني دخلتُ مصر هذه المرة من بوابة معرض القاهرة للكِتَاب، وكأنني أراها للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة!

إنها مصر المتسامحة، المتصالحة، المتوثبة للعودة إلى نهر الثقافة الجميل، الذي كان يمرق كنهر النيل.

أعمارٌ مختلفة، وتيارات مختلفة، واتجاهات مختلفة.. مُحجَّبَات وغير مُحجَّبَات.. عُمَّال وفَلَّاحون.. جنود بزيّهم العسكري وعلماء بزيّهم الأزهري.. طُلَّاب طب وهندسة، وقانون وتجارة، وصيدلة وعلوم.. الكل يمضي على ضفاف نهر الثقافة، وأنا كما «فؤاد حداد».. صاحب فرح.. وصاحب أنين.. وترجمان الحنين.

تحلَّق الأهل والأصدقاء والزملاء حولي في الندوة التي خصَّصتْهَا إدارة المعرض لكتابي الجديد «الصحفي الحزين.. على كراسي الطغاة»، فتبدَّد كل شعور أو أدنى شعور بالغربة أو الاغتراب.. إنها مصر تُصالحني، وربما تُعاتبني على الركون أو الاستسلام لنظريات الفلاسفة اليونانيين والفرنسيين!

تذكَّرتُ على الفور قصيدة «مصطفى كامل» وصوت «فؤاد حداد»: أول سلامنا لأمنا.. اللي جناحها يضمّنا.. يا كلمة خضرة ومؤمنة.. سلامنا للأرض اللي ولدت «مصطفى كامل».. أمل جميل الصورة والأسلوب.. وحلو زي الجمعة في الأيام.. بسر إخلاصك تلاقي الكلام.. اللي اتوجد دايمًا وكان مطلوب.. ونشيد بلادي بلادي.. يكتب شهادة ميلادي.. وبعد منه ولادي.

في الطابق الثاني من المعرض، كان هناك نهر زجاجي تُحيطه قاعات متعددة لمناقشة الإصدارات أو الطبعات الجديدة.. هنا تفوح رائحة الشعر والقصة والرواية، وهنا الفِكر والتاريخ والفلسفة، وفي الجهة المقابلة ترن أصوات عُظمَاء التاريخ والسياسة، ومن بعيد تأتي أصوات العلماء والمخترعين، وتتعالَى أصوات النُّقَّاد والمتداخلين.

كانت وجوه الناس في المعرض غير تلك التي رأيتها في الشارع، فآثرت العودة سريعاً إلى بيتي في التجمع الخامس.

في الطريق إلى البيت، انهالت الأسئلة المباغتة من السائق عن الغلاء، وعن تعديل الدستور، وعن السكن في القبور.. وجدتني أعود لـ»فؤاد حداد» مُردِّدًا ومرطبًا: المصري أول سيرة الإنسان.. احنا من صخر العزيق والصبر.. احنا من طل وندى المواويل.. زي ما اتعود علينا النيل.. زي ما اتعود علينا العطش.. يمكن خطانا في الزمان الطويل.. كان من سبيل الرحمة والحنّية.. يصعب علينا نفارق عيالنا.. ومجاش في بالنا.. زي العرق: الدم يبني البيوت.. يالي الشقا من ست آلاف حبنا.. اللي يزرع واللي يصنع خير.. بيعرف ربنا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store