Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟ (٧)

A A
«فمهما تجدد العرف فاعتبرهُ، ومهما سقط فألغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك.. بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجرِهِ على عُرفِ بلدك، وسَلهُ عن عُرفِ بلده فأجرِهِ عليه وأفتِهِ به، دون عُرف بلدك والمذكورِ في كتبك.. قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».

هذا كلام ابن القيم الذي قلنا في الجزء السابق أن الوقوف عند تفاصيله مطلوب، بدلاً من المرور عليه مرور الكرام، كما يحصل كثيراً، وغالباً لمجرد الاستشهاد العابر بوجود مثل هذه المقولات الإيجابية في تراثنا.. والسؤال المُعبّر الذي يمكن لكل مسلمٍ أن يسأله هنا: كم رجل دين أعرفهُ أو رأيته وسمعتهُ وقرأتُ له، يُفتي في مسائل تتعلق بحياة الناس، وهو يُطبّقُ مقولة ابن القيم أعلاه، منهجاً لتفكيرهِ، ومدخلاً لإعطاء الرأي والحُكم والفتوى؟

إلى أي درجةٍ تؤخذ الأعراف السائدة في هذا الزمن بعين الاعتبار عند تقديم ما يُقال بأنه الحُكمُ الشرعي في مسألةٍ من المسائل؟ المفارقة أن ثمة علاقةً وثيقةً واضحة بين العُرفِ والمعروف إلى درجة أن الله خاطب نبيه باستخدام الكلمتين: {وأمُر بالعُرف}، {وأمُر بالمعروف}.

يقول الجرجاني في (التعريفات): «العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول... وكذا العادة هي ما استمر الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرة أخرى». ويقول ابن عابدين في رسائله: «والعادةُ مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلقاةً بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعُرف بمعنى واحد». ومن بضعة عقود، تحدث عبدالوهاب خلاف في كتابه (أصول الفقه) مرتين عن العرف قائلاً في أولاهما إن: «العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة»، ثم قال في الثانية: «العرف: ما اعتاده الناس من المعاملات واستقامت عليه أمورهم».

نقرأ هذه التعريفات، ونستذكر كيف أن الله طلب من نبيه أن يأمر الناس بالعُرف، فنُدرك درجة الثقة التي وضعها الخالق في فطرة عباده كلهم، وأن الأصلَ فيها هو الاتفاقُ على ما تستقيم عليه أمور حياتهم، وذلك من واقع تجاربهم الذاتية المُشتركة، ومحاولاتهم المستمرة للتعامل مع تحدياتهم وشؤون حياتهم الخاصة والعامة، حتى لو اختلفت السبل والوسائل والمظاهر التي تؤدي لتحقيق ذلك الهدف.

مرةً أخرى نقول: مقالُنا ليس مبحثاً فقهياً، لكن هذا لا يعني استحالة الإشارة إلى مسائل تتعلق بالموضوع بشيءٍ من العقل والمنطق. ومما سبق عرضُهُ، يُصبح غريباً حصرُ غالبية المفسرين والفقهاء لمعنى (الأمر بالمعروف) في جملة أحكام وفتاوى تاريخية، تُعطَى المشروعية من خلال وَضعِها تحت خانة اتباع الرسالة المحمدية وطاعة أوامر الله.. هذا بغض النظر عن تغير الأعراف والعادات والتقاليد.

المفارقة الأخرى أنه كان هناك في التاريخ الإسلامي، على الدوام، من ينظر إلى المسألة من الزاوية الصحيحة، بل ويعيشها حتى في أمور حياتية قد تبدو جانبية وصغيرة، لكنها مُعبّرة، سيما وأن التدخل في كل شأنٍ شخصيٍ إنسانيٍ تفصيلي، من خلال حكمٍ فقهي أصدره أحد البشر، أصبح كأنه الأساس في عملية الالتزام بالدين.

كان ابن أبي زيد القيرواني صاحب (الرسالة) المشهورة في الفقه المالكي يسكن في أطراف المدينة، فاتخذ كلباً للحراسة، فقيل له: كيف تفعل ذلك ومالكٌ يكرَهُهُ؟ فقال: لو كان مالكُ في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً!..

هذا رجلٌ قال عنه القاضي عياض: «كان إمام المالكية في وقته، وقُدوتهم، جامعُ مذهب مالك وشارحُ أقواله... رُحل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه، وهو الذي لخص المذهب، وملأ البلاد من تواليفه».. هذا عالِمٌ مالكيُّ المذهب، وهو، بتلك الصفات، كان يعلم أن الإمام مالك يرى اقتناء الكلب مكروهاً. لكنه وجد الدنيا وقد تغيرت أحوالُها فيما يتعلق بالأمن والسلامة، فاقتنى، بكل بساطة، كلباً للحراسة دون أن يقف لحظةَ تردد تجاه مقولة إمامِ مذهبه. بل إن استنكاره للسؤال بلغ درجةً دَفعته للإجابة بتلك الطريقة، دونما دخولٍ في نقاشٍ فقهيٍ عقيم.

هذا رجلٌ عاش في تونس قبل ثلاثة قرون من كتابة ابن القيم لما كتبهُ في دمشق، لكنه كان يعيش أيضاً قيم القرآن الأصيلة في كل تفاصيل حياته العلمية والعملية، ببساطة، لأن مصدر الفهمين ومنهجهما واحد.. رحم الله الرجلين.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store