Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد البلادي

الله وحده يعرفهم!

A A
* «الله يعرفني ويعرفها». بهذه الجملة الرائعة والموجزة؛ لخَّصت الفتاة السعودية «عبير العنزي» السبب الذي دفعها للتبرع بجزء من كبدها لطفلةٍ لا تعرفها، ولا تربطها بها علاقة من أي نوع.. عبارة تُوجِز مِئَات الكُتب والمواعظ.. وتشرح في كلمات ثلاث؛ أعظم وأصدق وأروع أنواع الإحسان والعطاء الإنساني، العطاء الخالص لوجهه تعالى، والإحسان الذي يربط بين كل مخلوقاته، دون النظر لأي اعتبارات أيديولوجية أو عرقية أو عقدية، ودون مصالح، ولا حتى سابق معرفة.. فقط هي الرغبة في العطاء، للحصول على تلك السعادة العجيبة، وذلك الشعور الباذخ بالرضا الربَّاني الذي يملأ جوارح المُحسِن قِبَل المحسن إليه.. إنها العلاقة المتفرِّدة، التي كُلَّما كانت سرية وغير معروفة، كانت أقرب إلى الله.

* جاء في آثار التابعين، أن الربيع بن خثيم طلب من أهله يوماً أن يصنعوا له نوعاً فاخراً من الحلوى، ولمَّا كان لا يكاد يطلب منهم لوناً من الطعام، فقد سرّهم ذلك وأسرعوا في صنعها.. ولمَّا وُضِعَت بين يديه، لم يأكل منها شيئاً، بل أرسل إلى جارٍ له كان به ضرب من الجنون، فجعل يلقِّمه، ولعاب الرجل يسيل! فلما فرغ الرجل وخرج، قال له أهله: تُكلِّفنا صنع الحلوى ثم تُطعم بها هذا المجنون؟! والله إنه لا يدري ماذا أكل!.. فأجاب الربيع باطمئنان: لكن الله يدري.

* العلاقة بين عظماء البذل الحقيقيين، وبين الشهرة، علاقة عجيبة غريبة، فبقدر ما تبحث عنهم الأضواء، وتلهث خلفهم لتروي قصصهم النبيلة للناس بانبهارٍ وإعجاب شديدين، تجدهم يزهدون فيها، ويهربون منها.. فالشهرة ليست من أهدافهم.. بل إن السواد الأعظم منهم يرونها تُفسد علاقتهم الخاصة مع الله، وتُقلِّل من تلك الراحة الداخلية، التي تملأ صدورهم بعد كل عمل خير يقومون به!

* دخل السائب بن الأقرع على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُبشِّره بنصر المسلمين في (نهاوند)، فأخذ عمر يسأله عن قتلى المسلمين، فعدَّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم وكبرائهم، ثم قال: وآخرون من أفناد الناس (أي بسطائهم وضعافهم ومجاهيلهم) لا يعرفهم أمير المؤمنين.. فجعل عمر يبكي ويقول: (وما ضرهم ألا يعرفهم عمر؟! الله يعرفهم، وما يصنعون بمعرفة عمر؟!).

* عظماء العطاء -على عكس كل العظماء- ليس بالضرورة أن يكونوا مشاهير.. بل إنهم كُلَّما ازدادوا بساطة وبُعداً عن الأضواء، كُلَّما ازدادت نفوسهم راحة وسعادة.. لأن مَن يتعاملون مع الله هم السعداء والمفلحون، وهم الرابحون حقاً، لأن الله يُحب المحسنين.

* جميلة هي حكايات الإحسان المعلنة.. لكن الأجمل هي تلك الحكايات التي لم تُروَ ولم تُعلَن، ولا يعرف أبطالها إلا الله وحده.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store