في الأحداث الكبرى، اعتدتُ كصحافي قديم، على رسم خارطة لكل حدث ترصد محطاته، وتتأهب لمناطق الذروة فيها، وكنتُ أظن طوال اشتغالي بتلك المهنة التي كرَّستُ لها حياتي، أن انتزاع التميُّز مرهونٌ بالقدرة على القراءة المبكرة لخارطة كل حدث، والتخطيط الجيد للتعامل مع نقاط الذروة، ومناطق التمدُّد، وحتى توقُّعات التثاؤب والتململ داخل حدث استطال وتمدد.
في الأحداث الأخيرة بالجزائر، مررنا كصحافيين ببعض تلك النقاط، تابعنا البدايات، والمسارات، والذرى، وكُنَّا من وقتٍ لآخر، نترجَّل عن جياد الحدث، لنمتطي صهوة مآلاته، فنذهب إلى منطقة التوقعات، وفيها ما يمكن رصده، وما يمكن حسابه، وفيها أيضًا ما لا يمكن رصده ولا حسابه.
أنا الآن عند نقطة رصد المآلات في مسار حدث ضخم، ربما يصبح بتداعياته، أضخم الحوادث في شمال إفريقيا طوال هذا العام. بالنسبة لكثيرين في الشارع المصري، وربما في شوارع عربية أخرى، فإنهم قد شاهدوا هذا الفيلم الذي يتكرَّر في الجزائر من قبل، بل إن بعضهم يستطيع استدعاء خبرات أحداث ما يُسمَّى بالربيع العربي في مصر ما بعد تنحي مبارك، متوقعًا أن تتكرر بحذافيرها في الجزائر، أو متصوِّرًا قدرته على إنتاج نسخة محسنة مما جرى في مصر، أما بالنسبة لي، فإنني أرى أن شياطين التغيير وملائكته إنما يسكنون في التفاصيل الدقيقة لفترات الانتقال.
وبرغم فروق ذاتية تكتنف تجربة كل شعب، إلا أن ثمة قواسم مشتركة في خلفية الصورة على كل مسارح التغيير العربية، قد تعطي انطباعًا بأن ثمة نموذج واحد قابل للتكرار في كل دولة عربية، إذا ما تعرَّضت لذات الاختبار.
أبرز تلك القواسم، نجدها في ثقافة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، التي يلتبس فيها ما هو ديني بما هو سياسي، وما هو ذكوري بما هو إنساني، وما هو من صنع الشعوب بما هو من تصاريف القدر. في المثل العليا العربية، هناك الفارس الذي يحكم، أو الحاكم القادم من مضمار الفروسية، متوّجًا بأكاليل الغار، ومزوّدًا بخوارق القدرات. وفق هذا التصوُّر، رأينا جمهوريات تتطلع إلى التوريث، من سوريا التي كرَّست النموذج بولاية بشار الأسد خلفًا لأبيه، وحتى ليبيا التي استعدت له بتأهيل سيف الإسلام القذافي، ومن قبله العراق الذي كان يعد نجلي صدام، عدي، وقصي، لخلافة الرئيس العراقي (المهيب الركن الضرورة)!!، كذلك رأينا في اليمن الرئيس الأسبق على صالح يُجهِّز ابنه أحمد لخلافته، ويسعى لمواءمات إقليمية من أجل ضمان اعتراف إقليمي بنجله رئيسًا، وبينما كان الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي يُفتِّش بين أصهاره عن وريث، حيث لم يرزقه الله بصبي، كان الرئيس المصري الأسبق مبارك يعد نجله جمال لوراثة المنصب الرئاسي، وسط إنكار رسمي مزمن لسيناريوهات توريث يراها الجميع، وينكرها مبارك وعائلته.
الرئيس الجزائري بوتفليقة، لم يكن استثناءً من محاولات توريث الحكم لخلفاء من العائلة، رغم أنه لم يتزوج ولم يُنجب، وعلى مدى سنوات فترته الرئاسية الرابعة، كان شقيقه سعيد بوتفليقة المحاضر في الفيزياء يدير المشهد الجزائري، أو يشارك على الأقل بالنصيب الأوفر في إدارته. محاولات التوريث، الشخصي، أو المؤسسي، كانت إذن أحد القواسم المشتركة في دول ما يُسمَّى بالربيع العربي، ومحاولات إسقاط هذا التوريث كانت أيضًا قاسمًا مشتركًا في جميع تلك الدول.
هدف إسقاط التوريث، وحَّد مطالب شعوب دول الربيع العربي، فكان ثمة اتفاق ضمني بين كل من خرجوا إلى الشوارع، حول ما ينبغي عليهم هدمه، لكنهم كانوا يتفرَّقون شيعًا وقبائل، حول ما ينبغي أن يكون عليه المستقبل، بل إن اجتهاداتهم بشأن إدارة اللحظة عقب إسقاط النظام، قد استحالت إلى عامل تمزيق سددت بسببه الأوطان -وما تزال- فواتير باهظة، سوف تتحملها أجيال عديدة قادمة.
أبرز القواسم إذن، هي وجود نظام سياسي لا يُبدي مرونة أو تفهمًا إزاء فكرة التداول السلمي للسلطة، وثاني تلك القواسم، هو غياب أية حواضن مؤسسية للمعارضة السياسية في تلك الدول، ما يجعل السعي إلى التغيير قفزة باتجاه المجهول.. وثالث تلك القواسم، هو وجود تيار ديني يقبع خلف أستار المجهول، ويتطلع إلى فرصة سانحة للقفز على مراكز القرار وتدشين مشروعه السياسي، مستدعيًا نظرية (الخلافة) كمصدر لمشروعية ما قد يرتكبه من أعمال عنف؛ يحرص من خلالها على إسقاط نظرية الدولة. هذه القواسم المشتركة، قد تجعل استدعاء الحلول المجرّبة أمرًا سهلًا، وقد تسمح للتجارب الحديثة أو للمحاولات الجارية باستلهام حلول أنجع وأسرع وأقل كلفة. لكن الشعوب تميل إلى تعظيم خصوصياتها، بأكثر مما تميل إلى تقدير القواسم المشتركة بينها وبين سواها، ولهذا فإن القادم في الجزائر قد يتأثَّر بتجارب الجوار، لكنه لن يتبنَّاها، ولن يعفي نفسه من مغبة خوض تجربته الخاصة، متوكئًا على خصوصيات التاريخ والجغرافيا والبشر.. (يتبع).
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
