Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

حياة الطغاة وثورات الشعوب!

A A
ظننت أني أسافر بعيداً عن منطقتنا العربية بأزماتها وثوراتها، وأني أقضي وقتاً لا أنشغل فيه بأخبار ما يحدث من ثورات واضطرابات رغم أنها في صدارة الأخبار العالمية، ولم أفطن وأنا أصطحب رواية «خريف البطريرك» لغارسيا ماركيز، أنها ستعيدني ذهنياً إلى أحداث الربيع العربي، وما يحدث في السودان، وليبيا والجزائر، ثورات أعقبها اضطرابات.

الرواية فتحت لي أفقاً للتعرف على تاريخ فنزويلا السياسي، ربما لأني تابعت أحداثها السياسية المضطربة دون اهتمام، فالاهتمام منصب على واقعنا العربي المتأزم من كل اتجاه، أو أن ما يحدث في عالمنا العربي يصرف النظر عن أي أحداث خارج نطاقه الجغرافي.

فنزويلا من بين الدول الأكثر تحضراً في أمريكا اللاتينية، تملك أكبر الاحتياطات النفطية، منذ 10 يناير 2019 وفنزويلا تشهد أزمة سياسية نتيجة الخلاف حول نتائج انتخابات الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي أعلن رئيساً في 2018م، وقامت المعارضة بتنظيم احتجاجات وطنية ضد انتخاب مادورو والائتلاف الحاكم، تطورت الأوضاع بعد اعتقال قوات الأمن الفنزويلية على نائب الرئيس خوان غوايدو معتبرين الاعتقال محاولة لمنع الجمعية الوطنية من تسلم السلطة، وأعلنت الجمعية الوطنية أن مادورو غير شرعي، واندلعت الاحتجاجات وأعمال العنف.

لن أستطرد في الحديث حول ما يجري في فنزويلا، وما أوردته ربما يوضح فكرة رواية ماركيز «خريف البطريرك» رغم أن العمل الأدبي الذي بين يدي مجرد رواية مكتوبة بحرفية واقتدار كما يقول المترجم ويقول أيضاً: « يأخذنا ماركيز مرة أخرى إلى عالم أمريكا اللاتينية بواقعه وسحره... حيث نجد في شخص الديكتاتور مزيجاً من طغاة أمريكا اللاتينية جميعاً، كاشفاً لنا أن السلطة المطلقة تلخص كل ما في الانسان من عظمة وبؤس، وأدنى وأرفع ما في الطبيعة البشرية»، ليس ما يحدث في أمريكا اللاتينية هو ما أعادني إلى أحداث شرقنا المتوسط بل التيمة الأساسية في الرواية وهي حياة الديكتاتور فكلما قامت ثورة أزهقت روحه عاد مرة أخرى لينتقم من كل من كان ضده، حيث يتحدث ماركيز عن البطريرك أو الديكتاتور الذي يحكم فنزويلا، ويصف الحياة التي يعيشها الديكتاتور ويصف خريفه وموته وبعثه، يستخدم هذه اللغة أو الصور التي تفوق التصور وتحلق بك في الخيال الجامح: « خلال نهاية الأسبوع تسللت العقبان عبر شرفات البيت الرئاسي فخربت أسوجة النوافذ المعدن نقراً، وبخفقان أجنحتها حركت الزمن الراكد في الداخل، ومع بزوغ فجر الاثنين أفاقت المدينة من سباتها الذي دام قروناً على نسيم دافئ مبعثه ميت عظيم وعظمة متعفنة»، فهو يكتب عن ديكتاتور تعود إليه الروح كلما ثار الشعب عليه وداهمه الخريف، ثم وهو جثة خامدة يشاهدها الشعب الثائر ملقاة على وجهها، فيندفع من بوابات القصر ويشاهد الخراب الذي حل به، لكن الديكتاتور يستيقظ، ويعود أكثر بطشاً وانتقاماً من كل من ثار عليه، ويبحث عن من ذرف عليه دمعة، ومن وضع على جثمانه وردة، هي ذات القصة تتكرر، ثورة شعبية تسقط طاغية، لكن بعد أن تهنأ بالفوز وتعود لقواعدها الشعبية يخرج طاغية آخر يمسك بتلابيبها ويقوم بتصفية حساباته الشخصية، وكأن الطاغية الأول عادت له الروح وعاد لينتقم، هو هذا المشهد الذي ربما لا يزال يكبس على صدورنا كلما تذكرنا ثورات الربيع العربي المختطفة، لا أعني بلداً ولا أحداً وإنما أحاول تقريب الصورة بين رواية ماركيز وأحداث فنزويلا عبر تاريخها السياسي وما يحدث فيها الآن، وبين واقعنا العربي، فأزمة بعض الشعوب العربية بعد خلاصها من الديكتاتور، هي عودتها لقبضة ديكتاتور آخر، وكأن الروح تعود للديكتاتور مرات ومرات، كلما ثارت الشعوب وخرجت من غياهب الصمت، ودفعت أثماناً باهظة من أجل التخلص من عذاباتها، بعد أن تفيق من نشوة الانتصار تجد الديكتاتور يستيقظ من موته وتدب فيه الروح وتعود سالمة بالسلامة وكأننا لا رحنا ولا جينا، هي هذه الصورة التي أبدعها ماركيز في « خريف البطريرك» في عذوبة وسلاسة، رغم أنه يصور الحالة السياسية الفنزويلية إلا أنها أي الرواية تصور حالة بعض مايحدث في منطقتنا العربية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store