Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

محاورة رمضانية بين شاعر وطفل حول«المغرب»

A A
لم أكن أدري أن انجذابي لرمضان وصوت أذان المغرب في القرية له أسبابه التأملية الجمالية، على النحو الذي رواه الشاعر الكبير مصطفى عبد المجيد سليم في كتابه «وجوه تعشقها الذاكرة»!، ولم أكن أدري كذلك أنني سأفتح على شاعرنا الجميل وأنا في الرابعة من عمري نافذة دائمة من نوافذ التأمل الخلاق! كل ما أذكره أنني كنت أتسمر على كومة تراب عالية في فناء واسع، انتظاراً للحظة انطلاق الأذان ومن ثم رؤية «المغرب»! والحق أنني ظللت أداوم على رصد وتسجيل ومعايشة هذه اللحظة حتى بعد أن دخلت عالم الصحافة وانتقلت إلى القاهرة، حيث كنت أحرص على السفر من قريتي إلى القاهرة والعودة إليها في نفس اليوم طوال شهور رمضان!

وكان ما كان وغادرت مصر كلها للالتحاق بالعمل في العاصمة البريطانية لندن، حيث ظل أذان المغرب بصوت العم عبد الغني يرن في أذني كلما حان موعد الإفطار وأنا في «فليت ستريت» أو في «هاي هلبورن» حيث مقر عملي أو في «ويمبلي» ثم في «وود جرين» حيث سكني! وحين عدت ذات مرة، قرأت ما سطره شاعرنا الرقيق وأنقله هنا حرفياً: قابلني بالأمس الصحفي شريف قنديل.. ولما كانت الوجوه تحمل لي في آن ملامح شتى تتراوح بين الطفولة والصبا..وحتى اللحظة التي أرى فيها صاحبها.. وهذه الفكرة بعض ما أحمله من ضوء أستجلي به ملامح الوجه الذي يستوقفني، بل لا أبالغ إذا رفعت هذا البعض إلى درجة أكثر وضوحاً مما يشاركها من جوانب أخرى.. أقول كلما قابلت هذا الشريف: لماذا تعود بي ذاكرتي سريعاً إلى هذه المساحة الضيقة بين وقفتي في شباك غرفة بيتنا، وبين سور البيت المطل على بركة المياه الراكدة التي لم ترها، والتي ردمت فسارت فضاءً وسيعاً تحسده الأزقة المؤدية إليه، كلما خصه القمر البدر بحنان ضيائه الصيفي الرقيق أو الشتائي الملفع بالغيمة العابرة.

فلنعد إلى وقفتك البعيدة، تلك ذات أصيل رمضاني رقيق.. لا يشغلك إلا انتظار صوت المؤذن.. تعلقت عيناك بوجهي المطل عليك.. أحادثك بود القربى، وحنان الألف عن مشاغلك وكنت طفلاً في الرابعة.. ورغبة مني في استثارتك وفي احتدام الموقف المستملح الذي لم أشأ إلى أن أطيل دقائقه الحرجة قبيل المغرب، فقد طالبتك بوجه غضوب أن تذهب لتغسل ما علا جبهتك ووجهك المعفر، فأضحكني انصرافك عني غاضباً، وسارعت لكي ألحق بك متجهاً خارج البيت الى فضاء البركة الفسيح باكياً حانقاً! ولكنني سرعان ما استرضيتك مازحاً.. وما كادت تعود ملامحك الطفولية الى سابق عهدها من البراءة المجللة بكبرياء باكرة سقط عنها جلها، إن لم يكن جميعها.. حتى بادرتك بسؤالي: ما الذي تنتظره ؟! فقلت: المغرب! قلت لك: أين؟ فرددت إنه -أي المغرب- يقف الآن على سطح بيته متأهباً للأذان.. فما كان أروعه من أصيل، وما كان أسعدني بهذا الحوار الخاطف الحاضر أبداً.. وأقول الآن لنفسي هل استوعبت نظريات علم النفس شواغل هذا العالم الطفولي الجميل الذي منه ما عاشه الطفل وعايشته معه لحظة أن جعلني لا أفرق بين المغرب فلكياً يسقط عنه شعاع الشمس الغارب، والمغرب آدمياً يتمثل في ملامح هذا الشيخ الذي أسماه الطفل المغرب. لم أكن أبصر فيه إلا هذه الصفة الشاعرية طيلة حياتي، بعد هذه الوقفة ذات مغرب رمضاني بعيد.

من جهتي أسأل نفسي الآن: هل كان الشاعر وهو يصف الطفل الصغير، يدرك أو يستشعر أنه -الطفل- سيتوجه لدراسة الفلسفة ومن ثم مواصلة التأمل وإدراك المعنى الحقيقي للجمال؟ وهل كان الطفل يتصور أنه حين يكبر سيترك معاني الجمال عند أفلاطون وهوميروس ثم عند شوبنهور ونيتشه، وينجذب تماماً نحو معانيه في القرآن؟!

وبمعنى آخر، هل كان الفتى وهو يختار الصحافة مهنة وحياة، يعتقد أنه سيظل منشغلاً رغم مهامه الميدانية ثم التنفيذية، باستخلاص الصور الجمالية في قريته وفي أنحاء الكون؟! وهل كان كلاهما يتأملان الأذان ويخلطان من فرط هيبة النداء الأكبر بين المغرب الفلكي والمغرب الآدمي؟ أم كانا أسيرين للطبيعة القروية باعتبارها ميداناً من ميادين الجمال؟! أغلب الظن أنهما كانا وما يزالان يحلمان بالجمال الحقيقي.. بقيمته العليا.. وبصفته البارزة والمتجلية في الإبداع الإلهي!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store