Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

إيران.. وقائع أزمة لا سيناريوهات حرب (٣)

A A
لا توجد مواجهة بلا سقف لحسابات الصدام فيها، فالأطراف تسعى في الغالب لبناء السقف قبل حتى أن تقرر خوض المواجهة، بل إن أغلب الصراعات الدولية التي بلغت ذروتها بالحرب، يحرص أطرافها على تدبير وسطاء محتملين، قبل انطلاق شرارتها الأولى.

سقف الصراع، والوسطاء المحتملون لتهدئته أو لتسويته أو لإنهائه، شرطان ضروريان قبل إلقاء أول عود ثقاب فوق أول كومة من القش، في أية أزمة دولية أو اقليمية كبرى.

في الأزمة الراهنة بين واشنطن وطهران، يمكن ملاحظة حرص الطرفين على تأكيد أن أياً منهما لا يريد إشعال الحرب، أكد ذلك بنفسه الرئيس الأمريكي ترمب، وأكده بنفسه أيضاً المرشد الإيراني على خامنئي، والرئيس حسن روحاني. يمكن أيضاً ملاحظة حرص الطرفين على تأهيل وسطاء محتملين للتدخل في الأزمة تحت وطأة تصعيد محتمل، أو لتهيئة المشهد للحظة تنازلات يحرص كل منهما على تجنب أن تكون «مذلة».

مع دخول الأزمة طور تصعيد متبادل بالحشد العسكري، بدا أن ثمة قبولاً للعراق وسلطنة عمان كوسيطين محتملين، يمكنهما حمل ونقل الرسائل، وتخفيف حدة التصريحات، وتليين المواقف، وجنباً الى جنب، مع جهود الوسطاء، راح الطرفان يمهدان لمشهد انسحاب أو تراجع. أقل الحلول كلفة بالنسبة لادارة ترمب في المواجهة القائمة مع ايران، هو أن تعلن واشنطن من جانبها أنها قد حققت أهدافها، وأن الحشود الأمريكية في المنطقة، وعملية اعادة انتشار القوات، قد أجهضت مخططات عدائية إيرانية، تمكنت الاستخبارات الأمريكية من الاطلاع عليها وكشفها، وهو ما حدث بالفعل. وأقل الحلول كلفة بالنسبة لطهران، هو أن تعلن أن قواتها تسيطر على مسرح العمليات، وتنتشر في منطقة شمال مضيق هرمز، بل إن جنرالات ايرانيين قد بالغوا بالإعلان عن أن الأسطول الامريكي الخامس في الخليج بحاملات طائراته وبوارجه ومدمراته ومنصات صواريخه، كله، كله، بات تحت سيطرة القدرات الإيرانية في الخليج، وهو ما جرى بالفعل أيضاً.

جرب الطرفان اذن، أقل الحلول كلفة، وحرص كل منهما على أن يقول للرأي العام الداخلي عنده، أنه هو القابض على زمام الأزمة، والقادر على تحديد وجهتها، وسرعة حركتها، والسيطرة على كافة عوامل التأثير في نتائجها. أما على الأرض، فثمة حقائق جديدة، قد لا يتبينها كثيرون وسط غبار الأزمة، أول هذه الحقائق، أن ادارة ترمب قد نجحت في إعادة وضع الملف النووي الايراني على طاولة البحث والتشريح مجدداً، وأنها نجحت أيضاً في حمل شركاء غربيين في الاتفاق النووي،على مراجعة موقفهم من الالتزام بالاتفاق (فرنسا مثلاً). كذلك فقد نجحت ادارة ترمب في طرح ملف برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية على طاولة البحث ضمن الملف النووي ذاته، جنباً الى جنب مع قضايا تدخل ايران في بعض دول الاقليم (سوريا واليمن ولبنان والعراق).

أي تسوية نهائية للملف النووي الايراني الذي أعاده ترمب الى طاولة التفاوض مجدداً، باتت رهناً إذن، بما يمكن تحقيقه في ملف الصواريخ الباليستية، وأيضاً بملف التدخل الايراني في بعض دول الإقليم، لكن أي إنجاز في هذا السياق، قد لا يمكن تحقيقه بالاعتماد فقط على الحضور العسكري الأمريكي الثقيل في المنطقة، لأسباب كثيرة، لعل أهمها: أن توازن القوى الإقليمي هو العامل الحاسم لتحقيق إنجاز أمني وسياسي مستدام. أن عوامل القوة الذاتية لدى دول الاقليم المستهدفة بالتهديدات الايرانية، هي الأساس عند وضع أية استراتيجية للأمن في الإقليم.

أن استدامة الأمن الاقليمي، تقتضي إضعاف طهران، وتقوية الأطراف الاقليمية المستهدفة بالتهديد الإيراني.

أن إضعاف طهران ينبغي أن يتم عبر عمل منهجي، يستهدف تقليص حضورها الاقليمي في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.

أن تقليص النفوذ الاقليمي لإيران، يقتضي تعزيز آليات عمل عربية مشتركة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة والناتو، وأطراف دولية أخرى مثل روسيا والصين، وإقليمية مثل باكستان والهند، وربما تركيا أيضاً. أن إنجاز الأهداف السابقة ينبغي أن يصاحبه، وضع إطار جديد للتعاون الإقليمي، يمكن من خلاله استيعاب ودمج ايران في نظام إقليمي جديد، يتيح بناء صيغة للاعتماد المتبادل، تسمح بعلاقات سلام وحسن جوار مستقرة، لكن ذلك يظل رهناً بمدى قدرة النظام في ايران على ترويض ذاته، وتهذيب طموحاته، والاقتناع بأن تيسير سبل الحياة لمواطنيه، يمر حتماً عبر تحسين العلاقات مع الجوار العربي، والتخلي عن أوهام التوسع وغطرسة القوة.

ما زلت أرى أن الحرب يجب أن تظل بعيدة، وأن السلام يجب ان يظل ممكناً بأدوات السياسة، ومازلت أتوقع تسوية تفاوضية للأزمة، تعكس نضج وواقعية أطرافها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store