Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

موت لوزات القطن .. وسقوط أنفار«الكبوتة» شهداء الكدح النبيل

A A
كنت في لندن وتحديداً في «أكسفورد استريت» أبحث عن قميص قطني أبيض يناسب بدلة صيفية جديدة، وحين وجدته وفرحت به، تهلل وجه البائعة الإنجليزية بعد أن سألتني عن جنسيتي فقلت: أنا مصري، وقالت: وهذا القميص من القطن المصري الخالص! امتلأت فرحاً وفخراً قبل أن يعيدني القميص الى أرض الإصلاح.. تلك الأرض الفسيحة التي تقع على حافة «مقطع الرمل» من الناحية البحرية، كنا قد قررنا صغاراً ألا نستسلم للكسل في فصل الصيف فأرسلنا لإذاعة «الشرق الأوسط من القاهرة» نسألهم عن عمل في الفترة الصيفية، وجاء رد المذيعة بصوتها الجميل «أن على كل من الأصدقاء شريف وعلي وخالد وإسماعيل» استثمار الوقت في الانضمام لفرق مقاومة دودة القطن، نظير أجر يومي! وقفنا مع الواقفين مساء عند دكان العم «وهبة»، انتظاراً للخولي الأنيق الذي جاء بكشوف الأسماء منادياً وموزعاً أجر اليوم السابق «عشرة قروش» كاملة لكل صبي أو فتاة! انتظرنا قليلاً حتى خف الزحام وانتحينا به حيث انفجر ضاحكاً وهو يستمع لطلبنا! كان يعرف أن المهمة صعبة، وليست لنا لأننا كما قال «أولاد ناس» ! ومع الإلحاح قال: سأنتظركم قبل طلوع الشمس عند «شجرة السنط»

مرة أخرى ينفجر «الخولي» ضاحكاً وبصوت عالٍ، جعل الصبايا والشباب يلتفون حولنا فيما كان هو يتذوق الإفطار الشهي، الذي استحضرناه معنا ويوزع بعضاً منه على مساعديه! كان يدرك أننا لن نحتمل الشمس ولو لساعة، ومن ثم أشار لنا بالنزول.. ونزلنا! كنت أول من خرج، بداعي العطش! كانت كلمات الأبنودي تحفزني للعودة.. متقولش حاجة مقسومة.. ما تقولش أيام سود.. قوم من أحلاها نومة.. وانجد قطنك من الدود! وحين كنت أهمُّ بالعودة، لمحت الصديقين يأتيان نحوي، حيث قررنا المغادرة والسلام، وسط قهقهة «الخولي» الذي طلب منا مازحاً ومحيياً ترك ما بقي في مناديلنا من طعام!

عدت بذاكرتي وأنا أجلس في حديقة «الهايد بارك» الى مشاهد أبطال «الكبوتة»، ولم تشغلني عنها أصوات المتراشقين والمتراشقات بالكلام أو الهتاف أو الصياح في الحديقة العالمية المخصصة لإبداء الرأي!.. كان مشهد الفتيان في أرض الإصلاح أشبه بمن يوقعون عقداً تشهد عليه الشمس كل صباح! وكانت أهازيجهم ترن في أذني للأبيض المعجباني اللي مبيض وش الغيطاني.. كانت له -للقطن- كما يقول رامي وتغني أم كلثوم: شنة ورنة.. عمر بيوتنا وصهللنا.. يارب يحيي لنا آمالنا.. وتخلي مصر في أسعد حال.

دارت عجلة الأيام واستدارت وتبدل الحال.. لقد نكأت سيرة «كبوتة» القطن ذلك الجرح القديم.. أعادتني ليوم مأساوي وليل بهيم.. قفز الى ذهني ذلك المشهد الحزين حيث ماتت «لوزات القطن».. فعندما انتهت أو انعدمت مهمة التنقية فضلاً عن جني المحصول، انسحب الجمال وعربدت معاول التهجين! انسحب فريق «الكبوته» بنفس أعضائه.. الخولي الأنيق ومساعديه الأمناء والفتيان والفتيات للعمل في مشروع للصرف الصحي!.

لقد جمع فريقه معه وغادر الى مدينة مجاورة.. لم يكن الغناء في مشروع الصرف بنفس البهجة.. لم تعد أحلام الصبايا تكبر وهي تودع لوزات القطن المنور.. توقف حلم الأولاد والبنات بالزينات والأضواء المشتعلة.. وبجمال الحياة المقبلة.. كانت أغنية الصباح مبللة بالدموع. وكأنهن يدركن أننا سنبحث عن أجسادهن وأجساد أشقائهن بالشموع.. سقطت «المقطورة» التي يجرها «البابور» في ترعة أو بحر صغير كنا نطلق عليه «المشروع»! في الحادث المشؤوم أمست قريتي على مصرع نحو 23 شاباً وصبياً وفتاة، يتقدمهم «الخولي» الذي ظل يحاول رفع «المقطورة» التي غاصت بفلذات الأكباد في المياه.. كنا في الشتاء.. نسمع صدى النداء.. يحمله الهواء فيملأ ليل قريتي بل بيوتها كلها بالأنين والبكاء!

من يومها وأنا كلما جاءت سيرة مأساة المزارعين مع محبوبهم «القطن» أتذكر لوعة الفقد ومساء الثلاثاء الحزين.. حسرة الكبار، والرعب في أعين الصغار.. بكاء المكلومين.. وصراخ فتاة نجت حين لم تذهب.. وراحت تنادي على الميتين.. ونائحة كانوا يطلقون عليها «المعددة» انخرطت في الترديد على مسامعنا أمام الباب حيث ماتت لوزة القطن وأشجار اللبلاب: يا ممددة قومي.. يا ممدة قومي.. فرشك في الجنة حرير.. ومخدتك رومي.. رحم الله شهداء قريتي وأمتي في ميادين العمل والكدح والكفاح النبيل!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store