Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

فجيعة الفقد ووجع الأمهات

A A
قال د. مصطفى محمود: لا توجد حقيقة نتعامل معها مثل الوهم كالموت، لأن الموت يصمت زمناً، ربما كان ينجز مهام في نطاق بعيد عنا بمساحة كافية تمنحنا فرصة تعبئة حواسنا بضجيج الحياة، نفقد معها خاصية الترقب أو الإحساس بحتمية حضوره بغتة في نطاق قريب منّا، حتى يختطف وجوهاً نعرفها في سرعة وتتابع، يملأ حضوره كل حواسنا، فجأة ننتبه من غفلتنا على ضجيج وعنف وعشوائية حضوره، قال نجيب محفوظ: "الحياة فيض من الذكريات تصب في بحر النسيان أما الموت فهو الحقيقة الراسخة"، تؤلمنا هذه الحقيقة حد الوجع الذي يستمر حتى آخر العمر، لا يستثنى مخلوق من خوض هذه التجربة، تجربة الفقد؛ فقد قريب، حبيب، أم، أب، أخ، أو فلذة كبد، كل تجربة لها وجع مبرح وعميق لا يُمحى، لكن وجع الأمهات مختلف، وجع فوق طاقة الاحتمال مهما بالغت الأم في مظاهر الصبر، لكنها تعجز عن كبح جماح الوجع المبرح الذي يسحق روحها.

الأسبوع الماضي فقدت الصديقة الحبيبة انتصار العقيل ابنها منصور، مرت بأقسى تجربة تمر بها أم، مرض ابنها البكر فجأة، تدهورت حالته، ثم رحل تاركاً أماً ثكلى. تحولت انتصار إلى كتلة وجع يضج بأنين موجع.

انتصار الممتلئة مرحاً وتفاؤلاً، تلخص فلسفتها في مواجهة الحياة بعبارات لطيفة مثل: "مسخر المشاكل والهموم تتمسخر" أي تصبح تافهة لا قيمة لها في الحياة، انتصار المتوهجة بالحياة، عندما يستضيفها الصالون الثقافي النسائي بأدبي جدة، تمتلئ مكتبة حسن شربتلي بالحضور العاشق لانتصار العقيل التي تمتلك موهبة الحضور وبث الأمل في النفوس، والتحريض على التمرد على التقدم في العمر، والمسؤوليات التي تلتف على عنق المرأة كالحبل الغليظ الذي يكاد يزهق روحها فتستسلم له الكثيرات، فتذبل بهجتهن على قسماتهن، وتبدو أعمارهن ضعف حقيقتها، لكن انتصار تحرض النساء على الحياة رغم الهموم والمشاكل والمسؤوليات الملتفة على أعناقهن، تضغط على أنفاسهن. في أوقات كثيرة تجد المرأة نفسها محطمة نفسياً وجسدياً تحت هذا الثقل المتواصل، لكن انتصار تفتح لهن بوابة الخروج من تلك المسؤوليات بالهروب إلى ساعة مرح،"من المستحيل أن تضيفي لحياتك عمرًا آخر..لكن بالتأكيد تستطيعين أن تضيفي لعمرك حياة سعيدة..وطاقة جديدة"، مستشهدة بمطلع أغنية فيروز تعا نتخبا من درب الأعمار، لذلك أوجعنا وجع انتصار.

الأسبوع الماضي فقدت تونس أيضاً القائد الباجي السبسي، بكته تونس لأنه استطاع أن يحمي تونس من الوقوع في الفوضى كما حدث لدول ما عرف بالربيع العربي التي بعضها لا زال حتى الآن يعيش فوضى التناحر على السلطة.

فقدت جدة أيضاً المربية السيدة سيسيل رشدي، الشخصية التي أسست مدارس دار الحنان وظلت تديرها سنوات طويلة، وكانت شخصية حاضرة في كل المناسبات الخاصة والرسمية في جدة.

شباب وشابات وشيب، رحلوا فجأة أو بعد معاناة لمرض، لكنه الموت يأتي فجأة، لا يفرق بين سليم ومريض، بين طفل أو شيخ، أو فلذة كبد عزيزة؛ فالموت الوجه الآخر للحياة، لكننا نحاول تجاهله وعدم رؤيته إلا إذا اقترب منا كثيراً، نشعر بأنه باغتنا، وأنه اختطف أحبتنا، ربما لذلك نحاول تجاهله، واعتباره وهماً لا أكثر، فإذا دخل بيوتنا بغير أن يطرق بابها بل اقتحمها فجأة وانتقى وغادرنا مع من نحب يصبح الوجع نزيفاً في القلب لا يتوقف مدى العمر، لذلك تصبح كلمات المواساة عبثاً، وكل محاولات تخفيف الحزن لا تجدى، لذلك لا نملك غير الدعاء بأن يتغمد الله من رحلوا برحمته وواسع مغفرته، ولذويهم الصبر والسلوان، فلا يملك المرء أمام الموت غير الصبر والصمت والتسليم، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store