Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التقننة.. لا راجل ولا ضامر في الحج!

A A
يتحيَّر قارئ القرآن -أحيانًا- في مقاصد بعض آياته حينما يُخضعها لرأي مأثور، أو يعرضها على عقله، أو يُسقطها على الواقع، فلا يجد لها مخرجًا، ومن تلك الآيات التي ربما تستوجب بعض التساؤلات قولُه تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام: «وأذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتينَ من كل فج عميق»، وعلى هذه القراءة تتولد تساؤلات على شاكلة: كيف أسمعَ إبراهيمُ مَن في الأرض كلَّهم وخاصةً مَن هم في أقاصيها؟ وما المقصود بـ»رجالاً» و»ضامر»؟ وغيرها من التساؤلات. للمفسرين أقوال في كيفية وصول صوت إبراهيم للناس ولا تتسع المساحة لسردها، ولعلني قاربت هذه الإشكالية عندما قلت في إحدى تغريداتي: ‏»ربما يتساءل البعض: كيف وصل أذان إبراهيم عليه السلام للناس في أرجاء الأرض كما في: «وأذِّن في الناس بالحج..»؟! تأتي التقنية -ولله المثل الأعلى- لترينا كيف أن زعيمًا كبيرًا باستطاعته اليوم إيصال صوته لكل من في الأرض بواسطة البث المباشر.. فإذا كانت هذه قدرة البشر، فما ظننا برب البشر؟». وعلى هذا فقد قرَّبتْ لنا التقنيةُ المسألةَ، وأسهمت في فتح كوَّة بسيطة للإجابة على ذاك التساؤل مع أنها لم ولن تأتي بالحقيقة كما هي، لكنها أرشدتنا إلى قدرة الله التي عندما أُعطي البشرُ ذرةً منها استطاعوا أن يقدموا لنا حلاًّ تقريبيًّا متواضعًا لتلك الإشكالية، وتبقى قدرة الله فوق كل شيء. أما المقصود بـ»رجالاً» و»ضامر»، فتُبينُ لنا المعاجمُ اللغوية أن المقصود بذلك هو أن الحُجاج يأتون إلى البيت العتيق مُشاةً (على أرجلهم)، ويأتون راكبين على الإبل المهازيل من كل فج عميق أي (مكان ومسلك بعيد). وبعيدًا عن اجتهادات المفسرِين دعونا نتخيل أن أحدًا من جيل اليوم (جيل التقنية) قُرئت عليه تلك الآية، أظنه سيجد مخرجًا لقضية وصول صوت إبراهيم عندما يربطها بالتقنية -التي هو ماهر بها- ليستنتج أن قدرة الله التي هي أعلى وأوثق من التقنية قادرة على إيصال أذان إبراهيم لكل مكان، لكنه في الآن نفسه سيقف حائرًا بعد أن يتعرف على معنى «رجالاً» و»ضامر»، ويسقطها على الواقع المشاهَد اليوم؛ فهو لا يرى حُجاجًا قادمِين إلى مكة من فجاج الأرض وهم يمشون، أو يرتحلون إِبِلاً هزيلة أنهكها السفر، اليقين الذي يراه هو أن هناك حُجاجًا بالملايين يقدِمون إلى مكة راكبِين طائرات متطورة، أو سيارات فارهة، أو سفنًا حديثة، أو قطارات سريعة، ثم يراهم بعد أن حطوا رحالهم في مكة ودلفوا إلى المشاعر المقدسة (منى وعرفات ومزدلفة) وبدؤوا بالتنقل بينها، قد امتطى بعضُهم سيارات فسيحة مريحة، وبعضهم استقل القطار السريع، وربما يراهم -مستقبَلاً- مستقلين طائرات -بأي شكل- خلال تنقلاتهم في المشاعر المقدسة. عالَم جديد، وخدماتٌ جليلة، ووسائل نقل متطورة، واتصالات حديثة، تجعل جيل التقنية يصادق على أن «رجالاً» و»ضامر» أصبحتا ماضيًا ولم يعد لهما أثر في مكة والمشاعر المقدسة، فلم نعد نرى إلا حرمًا فسيحًا آمنًا يشكِّل مدينة عصرية بخدماته المتكاملة، وجسرًا للجمرات بطوابقه المتعددة المريحة تثير روعةُ تصميمه وعظيمُ الخدمات المقدمة فيه دهشتَنا، وملايينَ الحجاج وهم على تواصل صوتي وصُوْري مع ذويهم، وهم يتحركون إلى عرفات ثم مزدلفة ثم منى والخدمات المتطورة تحفُّ بهم، وإمكاناتٍ تقنيةً حديثة قد طوعت لخدمتهم، في ظل رعاية تامة من حكومة المملكة العربية السعودية التي جعلت العناية بضيوف الرحمن من أوجب واجباتها. الحج اليوم لم يعد فيه راجل ولا ضامر، ولا خائف ولا مغترب، ولا جائع ولا ظمآن ولا تائه، الحج اليوم أصبح غاية في الراحة والأمان، الحج اليوم وُظِّفتْ فيه وله التقنيات فدخلت في أكثر تفاصيله، ما جعله أكثرَ راحةً ومرونة وسلاسة، ووفرت على القائمِين بأمره الجهدَ والوقتَ. ولا ندري فربما يصبح (حج المستقبَل) كما يسميه الدكتور عصام بخاري في مجلة أهلاً وسهلاً -عدد ذي القعدة- التي تصدرها الخطوط السعودية ذكيًّا، وقد ذكر عددًا من التقنيات التي ربما تستخدم في (حج المستقبَل) منها العدسات اللاصقة الذكية، والجمرة الذكية، والعربات الطائرة، وتوليد الطاقة من نفرة الحجيج، وغيرها من التقنيات. استكمالُ تقننةِ الحجِّ -ومدينةِ مكة عمومًا- أمر تقتضيه ضرورة العصر، ولا أرى هذا الأمر إلا قد أصبح هدفًا لأميرِ مكة أميرِ الحج الأميرِ خالد الفيصل.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store