Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٥)

A A
عادةً ما تكون (العناوين) مخيفةً في ثقافتنا العربية والإسلامية. يُصابُ كثيرون بالانزعاج، وربما الغضب، من مجرد قراءة عنوان مقالٍ ما. يحصلُ هذا قبل قراءة شيءٍ من المضمون، فضلاً عن إكمال القراءة، وتمحيص أفكار المقال بحسابات العقل والمنطق.

يظهر هذا الوصفُ واضحاً في مجتمعاتنا حين يتعلق الأمر بالمعتقدات بشكلٍ عام، وحين يتعلق بالدين بشكلٍ أكثر تخصيصاً، وبالإسلام تحديداً.

غريبةٌ هذه الظاهرة وتدفع للتساؤل: هل يمكن تفسيرها بالكسل الذهني، واستسهالِ الحُكمِ على القضايا والأفكار و (الأشخاص) دون جهدٍ وتعب؟، هل تكمنُ وراءَها درجةٌ عاليةٌ من الذعر الداخلي وانعدام الثقة بالنفس، وبالثقافة والدين؟، هل تتكررُ بسبب ما يبدو، أحياناً، من سوء استخدام بعض الكُتّاب لمدخل النقد والمراجعة، واستعماله مدخلاً للإساءة والتحامل، وخلط الأوراق في كل ما يتعلق بالهوية الحضارية لهذه المجتمعات؟

بشئٍ من التحليل، تبدو الإجابة بـ (نعم) على الأسئلة الثلاثة السابقة معقولةً على طريق تفسير الظاهرة وفَهمِها.

لكن هذا لا يُبرِّرُ التهرب من مقاربة أي موضوعٍ يتعلق بالمجتمعات المذكورة، مهما كان حساساً. بل إن ثمة إلحاحاً للدخول بقوةٍ في مثل هذه المقاربات، تحديداً لأنها تؤثر في تلك المجتمعات، وتضع حاضرها ومستقبلها على المحكّ.

من هنا تنبثق مشروعية الأسئلة التي تُشكل عنوان هذه السلسلة من المقالات. فمجرد الإنكار لكل ما يجري من تغييرٍ فيما يُعتقدُ أنه (ثوابتُ) و(مُقدّسات) لا يجدي شيئاً في معرض (الدفاع عنها). هذا أسهل الحلول، كما يلوحُ، زيفاً وبُهتاناً. لأنه مجرد تسكينٍ للنفس وتخديرٍ للعقل ومحاولة يائسة للهروب من واقعٍ صلدٍ لا يمكن الهروب منه نهايةَ المطاف.

أشرنا في المقال السابق إلى أهمية الانتباه إلى السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المحلي، العربي والإسلامي، الذي كان سائداً وكيف ساهم في صياغة (ثوابت) و(مقدسات) معينة، ثم كيف تغيرَ فساهمَ، مرةً أخرى، في تغييرها.

لكنَّ أخذَ السياق العالمي أساسيٌ في هذا المقام، خاصةً فيما يتصلُ بعلاقة العرب والمسلمين مع الدنيا من حولهم.

ففي الماضي، كان لنا مع الغرب خاصةً ومع العالم بشكلٍ عام علاقة. ولكنها كانت علاقةً من نوع خاص. نحن نسمع عنه وهو يسمع عنا، ولكن من بعيد. كنا نعرفه من خلال الفلاتر السياسية والأيديولوجية: استعمار، إمبريالية، عدو، حليف إستراتيجي، بلدان صديقة.. وكان يعرفنا من قراءة قصص علاء الدين وألف ليلة وليلة. وفي أحسن الأحوال، من كتب الاستشراق.

ورغم كل الحروب وكل المشاكل وكل النزاعات، لم يكن الغرب بالذات يكترث كثيراً بما يدور داخل أرضنا في النهاية.

كانت الأمور تسير. ترتيباتٌ معينةٌ هنا وتوازناتٌ معينة هناك. هو في حاله، ونحن في حالنا، والأمور دائماً تسير.

لكن كل هذا تغير مع سبتمبر الأول في الألفية الجديدة. تحطَّمت جميع الموازنات والترتيبات. تغيَّرت كل الحسابات. دخل العرب، تحديداً، الواقع العالمي المعقّد من بوابة سبتمبر بنفس سرعة الطائرات التي اقتحمت الأبراج في نيويورك. وبدأ العالمُ، بالمقابل، يدخل في كل ذرةٍ من نسيج العالم العربي.

وفجأةً، تداخلت القضايا، تشابكت المصالح، تنوعت الاهتمامات، تناقضت الأولويات، و»زادَ في الطنبور نغماً» انفجارُ ثورة المعلومات والاتصالات العالمية، وقدرتُها على اختراق الحدود، وكسر الموانع، وتحطيم أغلب وسائل الضبط والربط والرقابة.

ومرةً أخرى، جاءت النتيجة منسجمةً مع مقدمتها. تسارعت وتيرةُ انهيار المنظومة القديمة من كل ناحية. أضحى كل مسكوتٍ عنه مجالاً للنقد والتحليل والمراجعة بل وللاتهام والهجوم. لم يعد هناك حصانةٌ من أي نوع. لا سياسياً ولا دينياً ولا اجتماعياً. بقيَ البعض القليل يؤمن بِمَراجعَ أيديولوجية أوسياسية، شخصية أو نظرية. لكن عقلية (المرجعية) بدأت تتآكل بشكلٍ ظاهر، خاصةً في أوساط الجيل الجديد. لم تعد هناك جهةٌ أو جماعةٌ أو حزبٌ أو فردٌ فوق نقدٍ يأتي من طرف من الأطراف.

وفي حين كان يمكن كتابة مُجلّد عن (المسلّمات) في العالم العربي منذ سنوات، لم تبق هناك فكرةٌ لا تقبل النقاش أو الجدل أو التشكيك في الزمن الراهن. إن لم يكن في الواقع ففي الصحف. وإن لم يكن في الصحف والمجلات فمن خلال رسائل الهواتف النقالة، وإلا فعلى الفضائيات، وإن لم يكن عليها فعلى الانترنت. وهكذا دواليك. والذي لا يعرف هذه الحقائق بالشواهد والأمثلة لا يعرف شيئاً عن الواقع العربي المعاصر. باختصار، بدأت رحلة سقوط كل ما يُعتقد أنه (ثوابت) و(مقدسات) و(محرمات). وأصبح صعباً أن تتوقف على المدى المنظور.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store