Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الإنترنت يمحو لوعة السفر وإبداع الاغتراب!

A A
مبكراً ذقت لوعة السفر، وعشت وحشة الغربة! وكنت إذا غنت شادية أو نجاة عن الغربة والسفر، أشعر برغبة في البكاء، رغم أنني وسط أهلي جميعاً حيث لم يسافر منهم أحد! ومن فرط معايشتي للحالة كنت إذا خرجت للسفر من قريتي بالمنوفية إلى القاهرة أو الإسكندرية أو كفر الشيخ أو بورسعيد، أبكي على محطة القطار أو الباص، وكأنني أغادر مصر! فإن توجهت للمطار أنستني وجوه الأمهات والأخوات المودِّعات لأبنائهن وأزواجهن، فرحة استقبالي لشقيقتي العائدة من لبنان! فإن صرخ طفل أو طفلة منادياً لأبيه، انخرطت في البكاء!

أتذكر هنا صديقي «غريب» ويبدو أنه كان له من اسمه نصيب، كيف كان يصرخ بل يجأر بالبكاء في المسافة من منزله الى المحطة، فلما اقتربت منه وسألته عن سر البكاء، قال: «مسافر يا خويا»!، والحق أنني في هذه المرة ضحكت! فلم يكن حال «غريب» رغم الوضع الاقتصادي صعباً أو متردياً للحد الذي يجعله يسافر مضطراً، ثم إن «غريب»، مسافر للعراق التي بات فيها أهل القرية بالعشرات، لكنني حين عدت لجلستي المسائية خلف سور حديقتنا، شعرت باللوعة، فقد جاء صوت شادية، صارخاً وباكياً ومتوسلاً أن نقول لعين الشمس «ماتحماشي» لأن حبيب القلب «صابح ماشي»! تسكت شادية للحظة فيخرج مجموعة من الرجال مرددين خلفها: ماشي حبيبي ماشي.. ماشي دا بكره ماشي! فتصرخ من جديد بصوتها الشجي الجميل، مناشدة الحمام، ومخاطبة إياه: يا حمام يا حمام! طير قبله قوام يا حمام! خلي له الشمس حرير يا حمام! ويا ناس لو غاب ياناس خلوه يبعتلي سلام!

ظللت وأصدقائي نتندر بحالة «غريب»، ونقصَّها على سبيل المزاح، ولم أكن أدري أنني سأكون غريباً آخر! فعندما سألني السيد سعود علي حافظ ، نائب ناشري «الشرق الأوسط» عن الوقت الذي سأكون فيه جاهزاً للسفر الى لندن، قلت بشجاعة وتلقائية وبلا تفكير: جاهز من الآن.. وقد كان! بكيت في نفس المكان الذي بكى فيه «غريب أحمد عثمان» على محطة القطار، الذي جاء يطلق صوتاً مرعباً ومزلزلاً لكريات دمي، وقلبي، وأنا أرتمي في أحضان شقيقتي مودعاً! وفي المطار، كنت أساق سوقاً الى الطائرة، حيث جلست أبكي وأنتحب، رغم جمال الطائرة، ومقاعد الدرجة الأولى الفارهة، ومحاولة المضيفة الإنجليزية المستميتة، وتعمدها النطق بعربية رقيقة، طالبة مني أن أحدد لها ما الذي أريد أن آكله، وأشربه!

وصلت لندن في أيام أعياد «الكريسماس» واحتفاءً بمقدمي حرص رفقاء السكن «سايكس اليوناني» و»حاتم ذكي السوداني» و «استفرولا الايطالية» على اصطحابي لميدان «الطرف الأغر»، وفي الساحة الكبرى ذات المصابيح، وفيما كان ثلاثتهم يندمجون مع الناس ضحكا وغناءً ورقصاً، كنت أعود لكل شيء في قريتي، وقد بدت الأضواء في عيني المغرورقة بالدموع كما لو كانت لمبات من الصفيح!، وقفت صارخاً ومغادراً: أيها الميدان البريطاني الواسع الفسيح، هل تمنح قلبي الملتاع فرصة ليستريح!

هكذا لم تفلح سهرات الكريسماس ومحاولات الأصدقاء، فضلاً عن «مدام بريسكوت» مالكة المنزل الذي نسكنه، في إخراجي من دائرة الالتياع على فراق الوطن! وحين توجهت لجريدتي الجديدة في «فليت ستريت» حيث كبرى الصحف البريطانية، وحيث ركوب القطار من محطة «تشيرنج كروس»، وفيما كنت أجلس في مكتب رئيس التحرير الراحل صلاح قبضايا، جاء صوت الأب الروحي الأستاذ عبد الوارث الدسوقي مرطباً لقلبي ومهدئاً لروعي: «مش هوصيك يا صلاح.. اهتم به، واعزمه الليلة على وجبة ساخنة.. واندمجت بل انصهرت في العمل الذي أطفأ مؤقتاً حدة اللوعة وأوقف دموعي الليلة على خد الوطن!.

كان الزميل الأستاذ محمد الشافعي محرر السياسة في «الشرق الأوسط» يعتقد وهو يهديني شريط كاسيت يضم مجموعة من الأغنيات، أنه يجاملني! وحين بدأت بالأغنية الأولى عدت للبكاء! كانت نجاة تغني: وبعتنا مع الطير المسافر جواب. وعتاب. وتراب من أرض أجدادي وزهرة من الوادي! يمكن يفتكر اللي هاجر إن له في بلاده أحباب!

زهرة قلوبنا دبلت ودبنا، من غير حبيبنا يرويها إيه! حبايبنا عاملين إيه؟ في الغربة وأخباركم ايه؟ مرتاحين ولا تعبانين؟ فرحانين ولا زعلانين!

ورغم أن أخباري أو إجاباتي على نجاة كانت إيجابية وجيدة، فلم أكن متعباً، على العكس كنت مرتاحاً جداً، فقد عاودني الحنين للوطن!

أتذكر ذلك، وأكثر منه، بشجن جميل، وشعور رائع، وأنا أرصد ما الذي فعله الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة، بهذه المشاعر المحفزة للإبداع، والمحرضة على الحنين، والمنمية دوماً لحب الوطن! والمحافظة على صلة الرحم! لا أظن الآن أن مسافراً يبكي حتى وإن سمع كوكب الشرق نفسها تسأله: يا ترى يا واحشني بتفكر فى مين؟! عامل إيه الشوق معاك.. عامل إيه فيك الحنين!. لا أظنه يلتاع أبدا، فالوطن نفسه يقول له بل ينصحه بأن يسافر مع السلامة، ثم إن الانترنت بعناصره ووسائله المتعددة، جعلت الناس يحاكون بعضهم صباح مساء، قبل أن يصعدوا الطائرة، ومن ثم فلا قيمة لجوابات نجاة، ومحايلات شادية، وسلامات نادية، وتشنجات فريد! ولا مجال لقصائد الغربة أو الهجرة أو الاغتراب، ولا فرصة لرسم لوحة عن الفراق، وأخرى عن العناق! لقد قتل الانترنت ومايزال يقتل مشاعر الحنين والالتياع، والأخطر من ذلك أنه يقتل في الأجيال الطالعة مكامن التعبير والإبداع!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store