Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

عن الفرق بين «حلاق بغداد» وحلاقي قريتي!

A A
أعادني الكاتب السعودي المبدع محمد الرطيان وهو يصف كرسي الحلاق بأنه، الأكثر ديمقراطية في عالمنا العربي، إلى طبائع الحلاقين الطيبين في قريتي.

والحق أن الحلاقين في «الرملة» كانوا يشتركون ليس في تهذيب شعورنا فقط، وإنما في تهذيب أخلاقنا!

كانت موضة الخنافس والهيبيز وغيرهما قد طفقت على المجتمع المصري كله، لكن حلاقينا كانوا يرفضون مجرد «تطويل السوالف» أو نحو ذلك من مظاهر يعتبرونها انحرافاً أو سلوكاً لا يليق.

كان المعلم «أحمد» مثقفاً وهاوياً للفن والأدب.. يجلس أمام أبي ويبدأ في «القص»، قص ما حفظه من قصائد شوقي ورامي التي تغنيها أم كلثوم، وترديد أبيات منها وهو منهمك في تسوية «الشعر»!

فإذا ما انتقل الحديث للسياسة راح ينتقد ما كتبه محمد حسنين هيكل في الأهرام.

وكان الأسطى «مغاوري» مولعاً بالطب والتمريض، ومستوعباً لخطورة الأوبئة وانتشار البكتيريا، وعنواناً للنظافة والطهارة، من ثم يستعين به أهل القرية ليس فقط في إعطاء «الحقن» وإنما في علاج الأطفال.

وكان وجه الأسطى «محمود» ينطق بالطيبة والألفة وبالخير.. يجلس في دكانه المرتفع عن الأرض مستقبلاً زبائنه من سكان ناحية في القرية، لا يسكنها، بقدر ما يسكن في قلوب سكانها.

ولم يشعر الأسطى «رشدي» الذي كان أقلهم حظاً يوماً واحداً بما شعر به « حلاق بغداد» من اضطهاد.. يمضي بين الحقول حيث ينتظره المزارعون هناك على حافة «الترعة» أو «المسقة» ممسكاً بحقيبته السوداء ومبشراً بإنتاج زراعي وفير وسنوات بيضاء.

وكان الخال الصاوي يعالج أثناء الحلاقة كافة المشاكل الاجتماعية خاصة خلافات الزواج حيث يصلح ويصالح ويداوي.

ومن فرط إعجاب المعلم «أحمد» بأبي وربما استجابة لإلحاحه، توجه الابن البكر إلى مدرسة المعلمين، ثم كلية التربية ليصبح معلماً فذاً تخرج ويتخرج على يديه عشرات الأطباء والمهندسين والمحاسبين والمحامين.

ومن فرط اهتمام الأسطى مغاوري بالصحة تخرج ابنه من كلية الطب بامتياز وصار الآن طبيباً مرموقاً يعالج المئات.

وهكذا كان الأسطى «محمود» الذي تميز عن الجميع بتقديم «شهيد» تذكره القرية بأخلاقه الرفيعة وسلوكه القويم.

كنت قد قرأت مبكراً الرواية العالمية «حلاق بغداد»، إنه الرجل طيب القلب، الذي كانت مشكلته لا تتمثل في الفقر وحده بل في أنه محروم من التعاطف.

والحق أن أحداً من الحلاقين في قريتي لم يشعر يوماً بالاضطهاد أو بما يسميه المؤلف الحاجة الماسة إلى التلاحم مع الناس، إلى درجة تكاد تصل إلى حد الجوع العاطفي.

هذا على الصعيد النفسي، فلم يكن أحدهم يشعر بنقص أو بضعف أو نحو ذلك، بل على العكس، كانوا مثقفين بالمفهوم الشعبي للثقافة، وكانوا حرفيين مهرة بكل المقاييس، وأصدقاء محبوبين لكل الناس.


ورغم الفارق الكبير في طباع حلاق بغداد على النحو الذي ورد في الرواية وحلاقي قريتي، فإن وراء كل حلاق منهم ألف موقف وحكاية تستحق أعمالاً أدبية، لا تقل خصوبة وروعة عما صاغه كاردون دي بومارشيه، وجوته وسرفانتس وتشيكوف وغيرهم من اساطين الرواية العالمية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store