Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

روائح الفرن البلدي وبلاطة الأحلام!

A A
تعلق الروائح الطيبة بالأجساد وبالأرواح طوال العمر، وكلما كان مصدرها نقياً كلما زاد عبقها.. تستوي في ذلك روائح الإنسان «كصدر الام»، وروائح النبات «كورد السور» وروائح الدور «كخبز التنور».

وكان الفرن البراني في الرملة ساحة للخير والبركة وانصهار الأفئدة.

«البلاطة» مستوية في جوف الفرن، و»المحمى» تتبلت بعد الخبيز بالشواء وبالبهار، والصبايا يعدن لبيوتهن معبقات بالبخور والعطور.

فاذا ما ظهر شاب يمسك بجمل أو بثور، نهضن في حركة مرتبكة، وتبادلن الهمس والعبارات المضحكة!.

واذا ما جاء آخر بحمل «تبن» أو «برسيم» قفز أمام الفرن البراني كظبي أو كعنز جبلي.. ينيخ الجمل وهو يخبره بأنه الى مكانه المراد وصل، ثم يتمتم بأغنية أو بشعر غزلي.

تشب في جوف الفرن نار الأحلام وتتحول الساحة التي أمامه الى واحة من الأماني الخضراء، فيما يتوعد عمه الذي هو الجمل إن هو عصا ما يقدمه له من مهر.. بالعين الحمراء!

والفرن البراني يختلف بالتأكيد في مظاهره وطقوس استخدامه عن الفرن الجواني، فالأول في الساحات الواسعة التي كانت بركاً مائية، جففها الأجداد الأولون، فيما الثاني ينام داخل الدور الكبيرة كدار الهلالية في سكون.

ورغم ان الروائي الكبير خيري شلبي لم يزر الرملة ولم يشاهد دار الهلالية التي كانت تضم وحدها أربعة أفران، فقد جاءت مشاهد مسلسل «الوتد» وكأنها تحكي عن هذه الدار.

يخرج دخان الفرن فتمتزج «العجنة» بالفرحة أو بالدمعة، وتتوقد نار العاطفة.. تأخذ ما في صدور الصبايا من همٍّ أو حزن الى العاصفة!

هذه صبية «تدفس» همها داخل «شروقة» الأحلام المحترقة على خطيب حتى الآن «مرفوض»، وتلك تحملق في « المحمى» التي توهجت من اللهب والجمر المصبوب.. فيما تخرج على «البلاطة» ألسنة الأمل في الموافقة على الخطيب القريب وذاك الغريب!

وهنا تحت السنطة أمام فرن العمة «كولة» تجلس فتاة مكلومة على عمها أو خالها.. يتساقط الدمع على محياها الجميل، فتبدأ الندب الخارج بصوت خفيض ونغم حزين كالهديل!

تحمر وجوه الصبايا بوهج الأرغفة، ثم سرعان ما تبرد مع لفحة هواء بارد.. تتحول حبات العرق الى كرات من الثلج الأبيض الذي يذوب أمام الفرن ويسطع ضوء شارد!

الحق أنه لم يكن فرناً كالذي تعرفون.. كان هودجاً مزيناً بالجريد الأخضر وبالعرجون.. يتيه بما يدخل ويخرج منه من خير، وما يصدر من آهات الصدور.

وكان القمر في الرملة منتصف الشهر، يفكر قبل أن يظهر ألف مرة.. وكان يتكور رغيفاً.. وطوراً عريساً.. وطوراً طريقاً لمعنى الحياة...وكان يشاركنا السهر، فيمنحنا الدفء الذي يرطب القلب، ويظل معنا حتى تشرق الشمس، ويبدأ موج الأحلام ينحسر!

في زيارتي الأخيرة للرملة، وقفت على أطلال الفرن، ورائحته تملأ الوجدان، سألته أن يعطني رغيفاً أو فطيرة، وهو الذي كان خبزي وكفافي.. سألته أن يمنحني شيئاً يعافي، وكنت ومازلت أوقن أن كل شيء طبيعي يخرج من الأرض الطيبة الى جوف الفرن هو من الأدواء شاف.

لم أكن أدري أن بلاطة الفرن استقرت في قلبي، وعندما مررت من هناك باغتتني بالهديل وبالنحيب، فأعادتني لأيام صباي، فمنذ ذلك الحين لم تعرف وجه حبيبة أو حبيب.. تركوها للبرد الذي يأكلها كل مغيب، وهي التي كانت تمنح الدفء للبعيد والقريب!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store