Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الحداثة تُفضِّل بقاء حالة صحوية!

A A
أن يُفضِّل بعضُ المتأثرِين بفكرِ الصحوةِ الإبقاءَ على شيء من حالتها -ولو في أدنى مستوياتها- فقد لا يغدو ذلك مثار دهشة، لكن أن يأتي ذلك التفضيل من بعض خصوم الصحوة، فالأمر هنا يدعو للدهشة والاستغراب، خصوصًا والمتأمِّل في صخب الصحوة والحداثة وهديرهما -في فترة صراعهما- من خلال المحاضرات وبعض منابر الجُمَع والأشرطة والمطبوعات بالنسبة للصحوة، ومن خلال الصحف ومنابر المؤسسات الثقافية والمطبوعات بالنسبة للحداثة، كان يُوقن يقينًا جازمًا -بناءً على صخبهما وهديرهما- أن الجو لو خلا لإحداهما لسدَّتِ الثغرة، ولملأتِ المشهد بما يسهم في وعي المجتمع وترقِّيه وتقدّمه في مناحي الحياة كافة. الذي حصل هو أن الساحة خلتْ أولاً للصحوة، فكانت لها إيجابياتها وأخطاؤها الكوارثية التي لا تخفى على أحد، في المقابل ظلت الحداثة تعضُّ أصابع الحسرة، مؤمّلةً أن تُمَكَّن من الساحة لتملأها -كما تزعم- وعيًا ونهضة وحضارة، ولمَّا أن دانت الكفة لرموزها، وخلت لهم الساحة تكشَّفتِ الحال، وبانت لنا أمور: أولاها- أن بقاء الحداثة وقبولها كان مرتبطًا ببقاء الصحوة -والحال نفسها مع الصحوة- فكلاهما كان يستمد بقاءه وتوهّجه من بقاءِ الآخر، وقد أكَّد عبدالله الغذامي ذلك في إحدى توريقاته حينما ذكر أن الصحوة خدمت الحداثة عندما اتخذتها خصمًا لها. ثانيها- أن الحداثة لم تكن حداثة شاملة لجوانب الحياة كافة؛ وإنما كانت حداثة (أدبية) تقتصر على التغيير في الأشكال الأدبية وخاصة الشعر، وهذا ما أكده علي الشدوي في كتابه (الحداثة والمجتمع السعودي) حينما قال: «كان حداثيو الثمانينيات يحملون مشروع الدفاع عن أعمال أدبية، وتبعًا لذلك أهملوا الحداثة بمفهومها الشامل»، وهو ما جعلها اليوم تقف موقف العاجز. ثالثها- أن الساحة لمَّا خلت لرموز الحداثة اتضح أنه ليس لديهم القدرة التي تُمكِّنهم من ملء الفجوة الحاصلة في المشهد الثقافي، وهو ما جعلهم يستجرِّون صراعاتهم وأيامهم مع الصحوة، ظنًّا منهم أنها ستُغطِّي هذه الفجوة، وبعضهم تخلّوا عن اشتغالاتهم الحداثية السابقة التي كانت تتخذ من الأدب والفِكر ميدانًا لها، واتجهوا إلى الثقافة الشعبية الغالبة اليوم. رابعها- أن مشاغبات بعض المثقفِين المستمرة حول أطلال الصحوة دليلٌ ظاهر على عدم وجود مشروع لديهم، وأنَّهم يُفضِّلون بقاء شيء مِن سخونتها، ما يعني ضمانهم البقاءَ على ساحة المشهد الثقافي، ومَن يمارس هذا كما يذكر محمد العباس في مقاله: (فراغ ما بعد الصحوة) بالشرق الأوسط، هو فصيل من المثقفِين «يُفضِّل الإبقاء على وجود حالة صحوية ضعيفة، ليمارس ضدها حالة الاستئساد الثقافي، ويعيد إنتاج خطابه السجالي في المحطة المغادرة ذاتها». أخيرها- يبدو أن التحولات الثقافية الحاصلة اليوم تخطت أفكار بعض رموز الحداثة، ولذلك حصلت لديهم صدمة لم تكن في حسبانهم، وفاتتهم مغانم كانوا يؤملونها، ولذلك لم يَبقَ أمامهم من ميدان يمكن أن يتحركوا فيه -كما يذكر الناقد عواض شاهر في تعقيبه على مقال العباس- إلا «أن يُبدعوا في حقولهم الأدبية ويُقدِّموا فوارق معتبرة في الشأن الإبداعي، وإلا فإن الحراك المتسارع لن يلتفت إليهم»، ولا أراه إلا أخلصهم النصيحة. أظنه آن الأوان لهذا الفصيل وغيره أن يلتفت للأمام، ويكف -خصوصًا وقد خلتْ له الساحة- عن بكائياته على (مظلومية الحداثة)، ويشتغل بإبراز ما لديه من أفكارٍ نيرة -إن كانت لديه أفكار- ترقى بالوطن علميًّا وفكريًّا وحضاريًّا. ثم إن المأمول من هذا الفصيل ألا يبقى يجتر أفكاره التي لا تخرج عادةً عن النفع الذاتي لشخوصه، وألا يبقى منتجًا (لخطابه السجالي العتيق ومشاغباته) ليظل في الصورة، وفي الوقت نفسه يواري ضحالة بعض منتسبيه الفكرية، ويصرف المجتمع عن تقييمه ومساءلته.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store