Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

لماذا قتلنا حاتم الطائي؟!

A A
منذ خمس سنوات أصبحت لا أستجيب للدعوات الرسمية بشكل شبه مطلق، أولا بسبب طبيعتي التي ورثتها من أمي، على العكس من والدي الذي قضى أكثر من ثلثي عمره في باريس، وتعلم الإتيكيت كما يجب، قبل أن يختار طريق الثورة ويستشهد في ١٩٥٩ على أرض أجداده، دفاعًا عن وطنه المستلب.

أكتفي أحيانا بشرب كأس شاي، من شرفة البيت المطلة قليلا على البحر، والجبل من الجهة الثانية، وأنسى أن الأكل ضرورة وأغرق في دهشة طفولية بقيت حية على الرغم من السنوات، لكل ما يحيط بي، الشمس، البحر، رائحة التراب، المطر، الآذان، الموسيقى، النوارس... اليوم، كثيرًا ما أدعى إلى مأدبات غنية ومغرية، في مناسبات وطنية، أو قومية، أو أجنبية، يكون فيها الطعام مسرفًا.. بل مبالغًا فيه إذ أتصور أن أكثر من الثلثين منه سيذهب لغير مكانه، أي تضخيم المزابل.. وأعتقد أن هذا ينهك ميزانية الدولة التي لا تذكر في الحوصلات السنوية، فداحة الخسارات، كما ينهك الأفراد أيضًا.. الكرم جميل، ولكن في الحدود التي لا تؤذي لا الضيف، لدرجة أن يشعر أنه غير مرحب به، ولا صاحب الدعوة حتى لا يشعر بالتقصير تجاه ضيفه.

لنا نحن العرب في الكرم الحاتمي، عبرة.. ماذا فعل حاتم الطائي؟ كان يعطي ما عنده لضيفه لأن ما عنده هو العيش اليومي.. يضيف له شيئًا من قلبه، وحواسه، وطيبته.. لم يكن يبعثر طعامه أبدًا، أو يرميه.. لم تكن للعرب مزابل.. كل شيء يؤكل، وما تبقى فهو للأحصنة والكلاب والأغنام.. الكل يشترك في المأدبة بحسب نظام أكله الطبيعي.. وهذه العادة ما تزال موجودة إلى اليوم في القرى النائية.. للأسف، نحن لا نقلد حاتم، ولكننا نقلد الرجل الحاكم العباسي الذي كان لا يرتاح إلا إذا كان أمامه صحن فارسي أنيق يحتوي على وجبة بلسان الطير (ألسنة حقيقية).. كم من طير يقتل فقط للاحتفاء بلسانه.. حقيقي أنا لا أشعر مطلقًا براحة أمام منظر الطعام المكدس والمتنوع، أكثره لا يمس.. لقد تعودت منذ طفولتي على ما هو أبسط من ذلك، بكثير.. ربما كان للفقر دور في، وقناعة البصر هي في النهاية تربية.. كنت أنا وإخوتي، بعد استشهاد الوالد، ودخول العائلة في حالة فقر مدقع، لا معيل لثمانية أفواه، الجدة والأم وإخوتي الخمسة وأنا، إلا كدّ أم سرقت منها أنوثتها في وقت مبكر.. نتعشى أحيانًا ببراد أتاي (إبريق الشاي) وقطعة خبز الزرع (الشعير) ونقضي الليل ببعض الجوع، لكن مستورين وبخير، كلمة أمي الدائمة.. أو بغرفية (صحن) حريرة مكونة من عجينة الطماطم التي نغرسها مع القصبر والنعناع والشهيبة، في جزء من باحة الدار، أو تصبرها أمي في قناني الزجاج.. حريرة بدون لحم لأنه غال.. ثم أذهب إلى المدرسة صباحًا بعد كوب من الحليب البلدي.. وعندما ننتهي من الدروس، ننزل إلى السقاية التي تفيض ماء ونتتبع مساره الذي ينتهي في وادي صغير، نغرس الحلفاء التي نكون قد وضعنا فيها ملصقًا محروقًا، وننزل عبر الوادي نمر بالرحى، ثم جنان عمي بن عاشور، ثم جنان الشيخ محند، والمشة، وخالي قدور، عليهم جميعًا رحمة الله.. ندخل بدون إذن مسبق نأكل الكرموس (التين) الدليع، البطيخ، اللوز، الرمان، الخيار، بحسب الفصول ولا من يمنعك.. جملة واحدة تتكرر على لسان صاحب الحقل: كل وما تخسرش (لا تفسد).. وعندما نعود على نفس الطريق المائي، نجد بعض الطيور قد علقت بالحلفاء، فنطلق سراح الصغيرة والضعيفة، والتي بها بعض اللحم، نشويها، ونأكلها.. لا أدري ما إذا كنا نجوع حقيقة.. لا أعلم.. لهذا، اليوم كثيرًا ما لا أشعر بالرغبة في الأكل، كلما الموائد الكثيرة.. ماذا لو أدخرنا ثلث ما نأكله، ومنحناه لمن هم في حاجة ماسة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store