Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

غربة القمر مع بائعي العدس والبوظة والتمر!

A A
أدين بالكثير للغربة، ولثلاثة مغتربين، وثلاثة فلاسفة، أنبأوني مبكرًا بأنني مسكون تمامًا بالوطن، أسكن فيه ويسكن داخلي.. آخذه معي أينما سافرت وارتحلت مثل أشيائي الخاصة، ومثل لهجتي ونبرة صوتي ولون بشرتي.. ومن ثم فإن المسافات الجغرافية مهما كانت، لا تبعدني عنه، وهي في الحقيقة لا تُقربني منه، لأنه في الأصل معي! أما المغتربون الثلاثة فهم: عبدالهادي بائع العدس والعسل، وعبدالجواد بائع البوظة والعرقسوس، وسيد رواح بائع التمر!، وأما الفلاسفة الثلاثة فهم على ترتيب معرفتي بهم: محمد عفيفي مطر، ومارتن هيدجر، وفريد ريش هيلدرن.

لقد غرس في نفسي الشاعر مطر مبكرًا أهمية الاستمتاع بفرح المغامرة، واستجلاء المجهول، ونشوة المعرفة، ومن ثم أصبحت في كل سفرية أو مهمة عمل خارجية، أتلهَّف لبزوغ الشمس، ثم انتفاخ النهار لأبدأ المشوار، فإن حلّت الظلمة، أُحاول فك طلاسمها انتظارًا لغبشة فجر جديد.. وأنا أُردِّد: حينما تعبر دربي يا قمر.. أحمل الظلمة في صدري سراج.. حينما تشرق في جوف سموات أخر، حينما ينهدل الشعر طريقًا للسفر، أترك الدرب أناديك: انتظر.. ريثما أترك في الدرب السراج.

وأما هيدجر، فلن أنسى ربطه الجميل بين عدم الشعور بالاغتراب والانصهار مع الجماعة، وقوله الأجمل: إن الإنسان يكون مغتربًا عندما يهرب من ذاته، وإن الإنسان يبني كل يوم آلاف المنازل، إلا أن الإنسان المعاصر، أصبح بلا مأوى حقيقي، لأنه نسي حقيقة السكن حيث السكينة والتناغم! وامتدادًا لهذا الفهم الرائع للاغتراب يحذر الشاعر الألماني هيلدرن من خطر ضياع اللغة في الغربة، مؤكدًا أن اللغة هي الإنسان، وحسبما يتكلم المرء يكون الإنسان إنسانًا، وأن التفاعل في الدنيا ومعها ينادينا، فإن لبّينا نداءه عبَّرنا عنه باللغة!.

لقد قدَّم لي هؤلاء الستة مفهومًا آخر للاغتراب، غير الذي قرأته لفلاسفة العقد الاجتماعي من أمثال: هوبز ولوك وجان جاك رسو، أولئك الذي تناولوا الاغتراب بوصفه «تخليًا» أو «تنازلاً» أو «تسليمًا واستسلامًا»!.

ورغم أنني كنتُ طفلاً صغيرًا، عندما تعرَّفت على الجد عبدالهادي، والعم رواح، والفتى عبدالجواد، فقد فتحت غربتهم أو اغترابهم عن أهلهم في الصعيد أمامي نوافذ متعددة للتفكير والتأمل، حفَّزتني لاستجلاء المجهول وحب المعرفة، وصهرتني في دراسة الفلسفة، وأثقلتني في مشوار الصحافة!.

لقد ظل اللسان الصعيدي القح ملازمًا لثلاثتهم، محافظين على مخارج كل كلمة وحرف، لأنهم يُدركون بالفطرة، أن جوهر اللغة هو حقيقة الوجود، وليس مجرد أداة أو طريقة للبيع والشراء!.

وكان عبدالهادي بائع الدبس والعدس يمشي في «الرملة» كأنه العمدة، بل كأنه ملك، يمضي مرفوع الرأس مطالبًا بحقه بثقة وصوتٍ عالٍ وبعزة نفس، «أن هاتوا ثمن الدرت»! فإن اقتنع بحجة التأجيل، راح يدعو من قلبه الذي بات واسعًا مثل الفلك! حين يروق يجلس في بيتنا فيفتح قلبه المشقوق، ينفض عن وجهه الحزن والوجوم، فتبرق ملامحه رغم سمرته الداكنة.. كالنجوم!.

أما العم سيد رواح بائع التمر، فقد كان يأتي من أقاصي الصعيد كل شتاء، مكتظًا بالحزن والهمِّ، فإن سمع ندهة أو وجهت إليه دعوة، يهتز جسده الطويل كنخلة، ويدخل مع الحشد راقصًا في نوبة بهجة! أثناء الرقص ينظر رواح للسماء، ثم يحلق في مدن البكاء، مناديًا أو معاتبًا أو ناعيًا حبيبته الحمقاء! سمعته ذات ليلة يقول: دلي الشيكارة دلي الشيكارة دا الحب يابني أصبح تجارة! تنتهي السهرة فيضحك أو يسخر قبل أن يتوسد حجرًا من جبل همومه.. يتخيله المارة جسدًا متصحرًا، حيث ينام على جانبه الأيمن، مغطيًا بشاله خده الأيسر!.

ذات مساء، ومع انتهاء الشتاء، اقتفيت أثر خطاه.. إلى أين ياعم سيد؟ ناديته.. لم يلتفت مكتفيًا بآه! ومع إلحاحي عليه قال: هذا تمري، أمنح لك كله، شريطة أن تعد!.

في طريق العودة عدت لشعر عفيفي مطر وأنا أردد: تمهل.. تمهل.. على مزلق الضوء وانظر لنا ياقمر.. لا تغرق الآن، واصلب خطاك القصار.. وكمم فم الجرح في صدرك اللين المستطار.

لقد كان وجه الفتى عبدالجواد بائع البوظة والعرقسوس يشبه وجه توت عنخ آمون، يأتي في الشتاء والصيف متسربلاً بسرواله الأبيض بين الصقيع وبين الهجير، فإن قرصته نحلة الغربة في بعض الأحيان يصرخ مناديًا ورافعًا صوت الصيجان! يمشي عبدالجواد في أرض الله الواسعة يقيسها بالشبر، يسمع صوت الطير يغني، فيدعو الله ألا يتأخر أكثر، عن هذا الأمل الأخضر، عله كان يجمع المهر! فإن مرت صبية وشعر تجاهها بما شعر بما يشعر به الشباب، جاءه هاتف يقول: لا تنتعش! انكمش! الحياة هنا عشب وقش! والخروج من ثوبك جنون ومس! ارتكس وانتكس!.

إلى أين يا عبدالجواد؟! إلى أي وجهة أيها المغترب؟ كان الوقت عصرًا، وكان دمعه ينسكب! اختفى عبدالجواد.. حاد وماد، وهو الذي كان يهيم في كل قرية، بحثًا عن المراد! سألته ذات يوم: من أين؟! أومأ بوجهه الفرعوني الجميل، مرددًا من هناك.. من آخر وادي النيل.. ومضى.. من يومها ما عاد!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store