Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في حتمية المراجعة الجذرية لـ «العلوم الشرعية» (7): حروب الردة، قراءةٌ أخرى

A A
مُقابِل الفهم والتفسير (الديني) البحت لظاهرة الردة والحروب التي تلتها، وهو السائدُ بشكلٍ كامل في كتب التراث، يمكن النظر إليها من جانبٍ آخر تحدثَ عنه بعض المعاصرين، فيه سياسةٌ وثقافةٌ واجتماعٌ بشري، نضرب فيما يلي أمثلة عليه من مجموعة كتب، نصارح القارئ الكريم أننا فوجئنا بوجودها على موقع (ويكيبيديا) العربية، والتي غالباً ما تكون مراجعها ومعلوماتها غير موضوعية ولاعلمية. لكنها كانت متميزةً هذه المرة.

ففي كتبٍ مثل (مقدمة في تاريخ صدر الإسلام) للكاتب عبد العزيز الدوري، و(تاريخ الخلفاء الراشدين: الفتوحات والإنجازات السياسية) للكاتب محمد سُهيل طَقُّوس، و(بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته) للكاتب سعيد عبد الفتاح عاشور، يُقدِّمُ الكُتّاب تحليلاً لاينحصر في الجانب (الديني/العقَدي) البحت، وإنما يُبحر في آفاق أرحَب يمكن لها فعلاً أن تُوسِّع دوائر الفهم المنطقي الإنساني للظاهرة.

يقول طقُّوس مثلاً: «كانت سياسة الرسول مُحمَّد تتجه نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسسةٍ تتخطّى النظام القبلي، واستطاع أن يؤسس جماعةً دينيَّةً سياسيَّةً جسَّدت كيان دولة. فدخل العرب عامَّتهم في هذا الدين، وانضووا تحت لِواء النبيّ، ودانوا له بالزعامتين الدينيَّة والسياسيَّة... وهكذا تمَّ توحيد القبائل في شبه الجزيرة العربيَّة في دولةٍ واحدةٍ يرأسها النبيّ ومركزها المدينة المُنوَّرة. لكنَّ هذه الوحدة كانت مُفككة. فالاضطراب الذي لازم مواقف القبائل العربيَّة، وحَّد التيَّارات المُختلفة في المدينة المُنوَّرة، فالتفَّ الجميعُ حول الخليفة. أمَّا خارج نطاق المدينة، وفي أرجاءٍ واسعةٍ من شبه الجزيرة العربيَّة، فلم يكن يوجد سوى أشكالٍ من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الدُخول في الإسلام كان قراراً سياسياً استهدفت به زعامات القبائل المُحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المُسلمين عليها».

الجماعة التي أسسها الرسول إذاً دينيةٌ وسياسية جسَّدَت كيان دولةٍ كانت مكوناتها تعاني من الحروب والتفرقة فوجدت في هذا الكيان ما يُحققُ مصلحتَها الدنيوية، ودخل قادتُها فيه بقرارٍ (سياسي). وعندما شعر هؤلاء بخلخلة الدولة (سياسياً) انتفى في نظرهم الهدف من دخول الدين، فظهرت معه ظاهرة (الردة).

أما عبد العزيز الدوري فإنه يؤكد أن الزعامات المذكورة «ربطت بين شخص النبيّ وبين ما حقَّقهُ للعرب بعامَّةً من مكاسب دينيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة غيَّرت تمامًا حياة العربيّ والنظام القبليّ الاجتماعيّ. فقد استبدل الإسلام، مُنذُ بداياته، رابطة الدم بِرابطة الدين والعقيدة... والتمزُّق القبليّ بِوحدة الأُمَّة... وحدَّ من النِزاعات القبليَّة التقليديَّة من خِلال رفع مبدأ الثأر بِشكله القبليّ، ونقل مسؤوليَّة ذلك إلى الجماعة الإسلاميَّة... وأطاح بِفرديَّة القبيلة لِقاء فكرة الجماعيَّة التي تستند عليها الأُمَّة، وأرسى قواعد الدولة الإسلاميَّة، وساوى بين المُسلمين دون النظر إلى أُصولهم وألوانهم وأعراقهم، ودعا إلى التكافل والتضامن، ونظَّم المُجتمع العربيّ على نحوٍ يتناسب وطِباع العرب».

مرةً أخرى، كان في دخول الإسلام (مكاسبُ اجتماعية وسياسية) فضلاً عن تلك الدينية. وفي حين أنَّ من الممكن جداً أن كلَّ ما تحدَّثَ عنه الكاتب أعلاه يُمثلُ، في أحد وجوههِ، مصالحَ سياسية واجتماعية لمن دخلوا الدين الجديد، يمكن لها أن تجعلَ حياتهم أفضل، إلا أن كتب التراث تنظر إلى الموضوع حصراً من مدخل ثنائية (إيمان/كُفر). والغريب في الأمر أن الإسلام نفسَهُ لايرى مُشاحةً في أن يكون في الإيمان به مصلحةٌ للناس. بل إنه في كثيرٍ من الأحيان يُركّز على أن تحقيق المصالح وجلبَ المنافع والحياة الطيبة للناس في الحياة الدنيا هو ركنٌ ركينٌ من دوره في هذه الأرض، إن لم تكن تلكَ مفاصلُ الدينِ نفسه.

أما عاشور، فيتابع التحليل قائلاً: «ومع ذلك... بقيت العادات والتقاليد القبليَّة القديمة مُتجذِّرة في نُفوس القبائل المُقيمة على أطراف شبه الجزيرة، وكانت أقوى من رابطة الدين. والحقيقة أنَّ سياسة التوحيد لم تكن قد استُكملت، ولم يتجذَّر الإسلام إلَّا بين سُكَّان المدينة المُنوَّرة ومكَّة والطائف... أمَّا سُكَّانُ المناطق الأُخرى في شبه الجزيرة، ولا سيما اليمن وعُمان وحضرموت في الجنوب، فلم يكن الدين قد تجذَّر في نُفوس سُكَّانها، ولقد كان إسلامهم سطحياً ومرحلياً، واستسلاماً للأمر الواقع خشية القتل والسبي، وليس اقتناعاً بالإسلام كعقيدة ونظام ومنهج حياة».

نحن هنا بإزاء نوعٍ آخر من (المصالح) ربما تكون تسميتها الأكثر صواباً (المصلحية) و(النفعية الانتهازية). إذ لا توجد هنا لا قناعةٌ بالدين نفسه، ولا رؤيةٌ للمصلحة الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن يُحققها للناس، وإنما هو مجرد (استسلام) لأمرٍ قد تَوَجَّه، كما يقولون. لكن التحليل يُفسِّرُ أيضاً بشكلٍ منطقي دخولَ الإسلام والردة عنه لدى مَن قام بتلك الممارسات.

هذا مثالٌ يتناقض مع ما ذكرناه في المقال السابق من تحويل (العلوم الشرعية) الناشئة عن التدوين لكل ظاهرةٍ في حياة الناس إلى (دينٍ) بحت، وهو ما سيكون مقام التفصيل في المقال القادم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store