Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

البوسطة بين خيانة عباس وأمانة العم معوض!

A A
لم تفلح رواية «البوسطجي» لأستاذي الأعز يحيي حقي، ولا مخرج الفيلم، حسين كمال في تشويه صورة «بوسطة» قريتي، بما فيها وحولها من مشاعر، ومن فيها من موظفين وعمال!. والواقع أن بوسطة القرية، ظلت في وجداني غرفة هائمة، تسطع الشمس من خلفها ناهلة، ومحملة بالأماني الطائلة!، إنها الخبر الأكيد عن بطاقة الترشيح للكلية المختارة، أو لخطاب التجنيد.. وصول التأشيرة، أو موافقة السفارة، وتحقق الحلم البعيد!.

حول البوسطة -بوسطة الرملة- تخفق القلوب، وفوقها يهدل الحمام بالنغم الطروب.. يخرج العم معوض بالخبر المثير فيفرح الكبير ويصرخ الصغير، فيما الأمنيات الخضر في كل مكان من أرجاء القرية.. تطير!.

وعلى عكس ما في رواية يحيي حقي من مآسٍ، وفي الفيلم من قتامة، ظلت بوسطة القرية، دليل حب وخير وشجن وأمل ومواساة وحنين وأشواق وسلامات.. وعلامة! طيبة القلب، وأحلام الفتى الصب.. القلب المجروح، والصوت المذبوح.. الكلمة الفاصلة، والمواقف القاتلة.. حروف البهجة، والأسئلة المرتبكة، والصور الجميلة والمذهلة!

التقيت كاتبنا الكبير يحيي حقي في منزل العلامة الأكبر محمود شاكر، ووافقني الرأي في العبث الواضح بأبطال القصة من خلال الفيلم، الذي أخرجه حسين كمال.لقد امتلأ الفيلم بأشكال متعددة من القتامة والخيانة، فالبطلة «جميلة» قتلت على يد أبيها، بعد أن قرأ الخطابات الواردة لها من صديقها «خليل» والبطل الآخر، هو ذلك الشاب القاهري «عباس» الذي افترسه الملل في الصعيد فراح يفتح الخطابات التي تمر تحت يده، حتى علم بقصة جميلة وخليل!.

والحق أننا لم نسمع كلمة واحدة عن الأستاذ موريس عبد الملاك، مدير البوسطة الأمين، ولا عن العم «معوض» أو الخال «شندي» أو الأخ «عبده غريب»، فالكل يتفانى في عمله.. يفرح لكل خطاب سعيد، ويألم لكل خبر حزين!.

شاهدت الفيلم العالمي «ساعي البريد» ومع إعجابي بدور كيفن كوستنر الذي أعاد السلام للعالم، فقد ظلت صورة العم «معوض» هي الأجمل والأنقى.. كان الرجل، يبتسم ويتألم حسب الظروف! ظرف طارئ أو دائم.. ذكرى جميلة تأبى الارتحال، وبضعة أمتار يمشيها تختزل كل معاني الأمانة والجمال!، كان في معظم الأحوال لا ينطق، فقط يبتسم حين يباغته السؤال: «مفيش جوابات يا عم معوض»؟! يفتح الرجل قلبه، وينظر للسماء داعياً ربه، يتمنى لو يطمئن كل سائل، أو يرد غربة، أو يبدد وحشة، أو يخفف لوعة، فاذا جاء خطاب بشريط الحداد تمنى لو يبدل نقشه، قبل أن يمضي آسفاً لحجم الألم والدهشة!

كان ابن العم رمضان، قد ذهب للخدمة العسكرية، ويبدو أنه كان يقضي يومه أو ليله في كتابة الخطابات، وفور أن نمسك بالخطاب «المستعجل» لا نجد فيه معلومة واحدة، أو مبرراً واحداً للاستعجال! حيث يبدأ الخطاب بسلامه لعمه «ألف مليون سلام» ولزوجة عمه «ألف مليوم سلام» ولكل أحد باسمه «ألف مليون سلام» والسلام ختام! مع ذلك، كنا من فرط الذهول، نتوق لرؤية العم معوض حاملاً خطاباً مستعجلاً أو بعلم الوصول! نريده يأتي لذلك الجار دائم التفكير والشرود، ولذاك الذي يمضي حياته، ولا جديد ولا بريد.. يبكي على ذاك الابن البعيد، ويسأل عاتباً: هل عاقه ثمن الجواب.. رغم أن ثمنه زهيد؟!.

اختفت بوسطة الرملة من مكانها، ما عادت أخبار الأحباب على القلب وعلى العين ترف.. ما عادت جوابات البهجة تأتي لتهنئ أو تبشر أو تزف!، تقاعد العم معوض.. أبطأ الخطو.. بعد أن أيقن أن المسافة التي كانت يقطعها بين بيت وبيت.. بين قلب وقلب.. باتت تهرب من حواليه، زاغت أو تاهت عيناه في الفراغ، لم يعد يرى!.

قرأت مذكرات ساعية البريد البريطانية إميلي تشابل بعنوان «ماذا يدور حولك»، وازددت حنيناً لأجواء بوسطتنا القديمة، وحين مررت بها أخيراً وجدتها تعاتب، ووجدتني أردد: اطمئني .. إحساسي بجمالك وفضلك لم يضِعْ مني.. فأنا رغم ارتحالات سنيني، كلما مررت بك تزداد شجوني!

كانت فيروز تغني: أوف.. أوف.. أوف.. بكير طل الحب عا حي لنا.. حامل معو عتوبي وحكي ودمع وهنا.. كنا وكانوا هالبنات مجمعين.. يامي وما بعرف ليش نقاني أنا.. جايبلي سلام عصفور الجناين.. جايبلي سلام من عند الحناين! وكنت أهدي العم معوض رائعة نزار قباني: وموزع الأشواق.. يترك فرحةً في كل باب..خطواته، في أرض شارعنا..حديثٌ مستطاب.. وحقيبة الآمال، تعبق بالتحارير الرطاب.. يا أنت.. يا ساعي البريد.. ببابنا، هل من خطاب؟!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store