Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الكتابة وموضوعة الموت

A A
من منا اليوم لا يملك مكتبة ورقية تواجهه كلما عاد إلى بيته مساءً مثلا؟ مكتبة معظم سكانها من الأموات دون أن تتحول إلى مقبرة، ولكن إلى وسيلة قوية لاستمرار الحياة.. كلما أخرجت كتاب «أولاد حارتنا» مثلا لمحفوظ أو «جيرمينال» لزولا أو رسالة «إني أتهم» لزولا، أدركت كم أن قوة الأدب هي فوق الموت وتتحداه إلى النهاية وتذكرت قضية الإنسان في المطلق التي ناقشها محفوظ، والبؤس الإنساني في ظلمه وعنصريته كما طرحه زولا بلا خوف ولا تردد حتى ولو حتم عليه ذلك الهرب إلى لندن، بينما امتدت يد ربوت الفولاذ الأعمى لتحاول ذبح محفوظ، ولم ينج إلا بأعجوبة.. كم تبدو المكتبة سكنًا للخالدين من الذين قتلوا أو انتهوا طبيعيًا.. قبل «الإسلام المسلح»، فقد كانت الكنيسة في زمن الخوف تطارد أصوات الحق وتهدد بالمحارق والإبادة، والتخويف، لكن ماذا بقي منها اليوم ومن الحقد الأعمى الذي سلطته على البشرية؟ لا قوة استطاعت إسكات صوت الفنان أو العالم المتنور، على الرغم من الموت الذي أصبح ملازمًا للفن.

كلما فتحت كتاب سيرة غاليليو مثلا، في مكتبتي، تأملت هذا الرجل الذي قضى عمره يدرس الأفلاك في حركتها والأجرام بلا توقف، وينتقد المفاهيم التي تبنتها الكنيسة، لتصحيح المعرفة الإنسانية التي استولت عليها المؤسسة في القرون الوسطى، الدينية، بقبحها وجبروتها.. وجيرت المعرفة الخاطئة لصالحها، وقتلت وعذبت كل من وقف ضد أوهامها.. دخلت حتى الأعماق ووضعت مسيحية بمواصفات الشيطان وكل من تحدث خارج النسق أصبح ضحية لها.. بل إن مقولة غاليليو وهو يقف أمام المحرقة والنجاة من موت محتوم في الأخير لأنه أجبر على الاعتراف بأن الأرض هي مركز العالم والشمس هي التي تدور حولها، إلا أنه عندما وصل عند عتبة باب مخرج المحكمة، وبعد أن نفذ من نيران محاكم التفتيش، قال وهو يتمتم: ومع ذلك فهي تدور يقصد بها الأرض.. المعرفة البشرية اليوم انتصرت للعلم، وقتلت الافتراءات غير المؤسسة، التي كانت تقول إن الشمس تدور حول الأرض، والحقيقة أن الأرض ليست أكثر من كوكب صغير من ضمن العديد من الكواكب المكتشفة.. كان يجب قتل المفاهيم المغلوطة الذي صنعتها الكنيسة عن جهل.. وينشأ مكانها الإنسان العالم والعارف الذي قفز بالمجتمع الأوروبي إلى ما وصل إليه اليوم..

الإسلام مر بنفس الحالات السلبية حينما تسلط عليه ناس حولوه إلى سياسة لتبرير الجريمة.. قتل العلماء وذبح كل من ناقض هذه الفئة المتطرفة.. ذهب في هذا الخضم ابن رشد، الحلاج، ابن المقفع وغيرهم من العشرات من العلماء والمثقفين من زماننا، بتهمة الإلحاد والكفر ، وتتطور آلة السحق والموت بعد أن جيرت الدين كله لمقولاتها المتطرفة والقاتلة، وبرمجت أجيالا بكاملها داخل هذا الخراب المتناسل بلا توقف.. وكانت الجزائر ميدانًا حيًا لذلك لمدة عشر سنوات محت ذاكرة بكاملها والعشرات من خيرة العلماء والمثقفين، والكتاب، والصحافيين والفنانين وكان لابد من الوقوف ضد هذه الآلة العمياء.. ليس بالسلاح فقط، ولكن بفعل الرواية.. الرواية هي القوة الناعمة التي تغير عبر الزمن كل ما يبدو مستحيلا.

كتبت روايات عديدة، كانت موضوعاتها قضية الموت الذي فرضه الواقع الصعب.. كانت سداسية المحنة هي وسيلتي للكتابة عن الموت لا لتقديسه، ولكن لتفاديه إبداعيًا: سيدة المقام التي رسمت كيف ترعرع القتل والموت في المدرسة في غفلة من الجميع قبل أن يشتد عوده ويفرض نظامه.. حارسة الظلال جسدت تسلط قوى الشر على الفنون لإنهاء حضورها المجتمعي.. وبالفرنسية كتبت مرايا الضرير وهي ترسم هذا العنف الذي جعل من الموت شيئًا سهلا.. وهذ الرؤية استمرت في رواية شرفات بحر الشمال حيث يدفع الموت بالفنان إلى الهجرة لتفادي الموت المجاني والاستمرار في الإبداع، وعدم التنازل عن الفن لأنه القوة الوحيدة التي تملك قوة الاستمرار في الزمن.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store