Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

مدرسة «علي الشيخ» الصحفية والفنية والسياسية المشتركة!

A A
لم يحالفني الحظ ولم يمكنني العمر في ذلك الوقت، من الظفر بلقاء مع عملاق التعليم والفن والصحافة الراحل علي الشيخ. أتذكر عندما وقفت مع طلاب المدرسة التي بناها الرجل قديماً حين كان موكبه المهيب يمر هناك، الى حيث قبره الذي ينام في أعماقه الشجر. الآن أشعر بثمة دَين في رقبتي ورقبة الأجيال تجاه هذا الرجل، وتجاه كل من أضاء شمعة.. إنها ديون الإحساس بالجمال والروعة!

لقد اكتشفت بعد هذا العمر أنني غادرت مدرسة عبد الرحمن قايد الابتدائية دون أن أعرف أن صاحبها وبانيها جدي، وغادرت مدرسة علي الشيخ الاعدادية، دون أن أدرك أن صاحبها وبانيها هو ذلك الرجل صديق أبي الذي يأتي للقرية من القاهرة فتشع شوارعها بالنور، ويتفتح في غيطانها النوار.

والحق أن علي الشيخ لم يكن فقط صاحب مدرسة تخرج منها مئات الشعراء والأدباء والأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين، منذ عام 1953 وحتى سنة 1993. لقد كان صاحب مدرسة فنية، ساهمت في تغيير نظرة المجتمع السلبية للفن، ودافعت بقوة عن حقوق الفنانين والمطربين والشعراء والملحنين، وصاحب مدرسة صحافية شارك معه في تأسيسها مصطفى وعلي أمين ومحسن محمد! وصاحب مدرسة سياسية، تصدت مبكراً لانحراف ثورة عام 1952!

هكذا كان العملاق علي الشيخ الذي ولد عام 1902 وحصل على شهادة العالمية الأزهرية (تُماثل الليسانس) قبل أن ينتقل الى القاهرة حيث الاندماج مع الوسط الفني والأدبي والصحفي. وفي عام 1926 أصدر علي الشيخ أول مجلة لدعم فناني مصر من الممثلين والمطربين، حيث تحولت المجلة «الممثل» فضلاً عن بيته في ضاحية العجوزة الى مقر شبه دائم للرعيل الأول الذي كان يضم يوسف وهبي وأنور وجدي وحسين رياض، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد، وأحمد رامي، وزكريا أحمد، وبيرم التونسي، وأمينة رزق، وفاطمة رشدي، ومحمد فوزي، وغيرهم.

هكذا ترك علي الشيخ بصمته في تاريخ الفن المصري.. وفي أوائل الأربعينيات، وبعد انتهاء الحرب العالمية، انتقل «رحمه الله» الى الإسكندرية عام 1947 والتقى السيدة نبوية موسى، أول مصرية تحصل على شهادة البكالوريا وأول ناظرة مصرية لمدرسة ابتدائية، ولأنها كانت كاتبة ومفكرة وأديبة، ورائدة من رائدات العمل الوطني، فقد اتفق معها على تقديم خبراته الأدبية والفنية والصحفية للأجيال الواعدة في ذلك الوقت. وفور قيام مصطفى وعلي أمين رائدي الصحافة المصرية الحديثة بتأسيس «أخبار اليوم» التحق بهما وعمل مديراً لمكتب الجريدة بالإسكندرية، محققاً أعمالاً متميزة ساهمت في زيادة دخل الجريدة الناشئة من الإعلانات، وفي تلك الفترة تتلمذ على يديه كوكبة من الرعيل الأول لأخبار اليوم مثل محسن محمد وأحمد رجب وعبد الوارث الدسوقي وغيرهم.

والمؤلم أن الجيل الحالي في «أخبار اليوم» وربما في «نقابة الصحفيين» قد لا يعرف أن الراحل علي الشيخ تمكن من تحصيل مبلغ 30 ألف جنيه من قيمة الإعلانات كانت كافية في ذلك الوقت، لارتفاع مبنى الجريدة العريقة خمسة أدوار اضافية!. شيئاً فشيئاً بدأ اسم علي الشيخ يتردد بقوة في الأوساط السياسية، حيث كتب منتقداً أداء بعض رجالات ثورة 1952 خاصة عضو مجلس قيادتها جمال سالم، وعندها نصحه صلاح سالم وزير الإرشاد القومي في ذلك الوقت «الاعلام» بترك الاسكندرية والتوجه الى القرية، التي هشت لقدومه وفتحت قلبها له!. لقد كان من المثير والمدهش والجميل أن «علي الشيخ» حين قرر بناء منزل حديث في الرملة، آثر أن يبني في نفس الوقت مدرسة اعدادية تفتقدها القرية وكل القرى المحيطة بها، وقد كان.. لقد أدرك الرجل مبكراً أن جوهر الأخلاق يقوم على الانسجام التام بين وجدانات وحاجات الفرد ومطالب المجتمع.. إنه فعل الخير، وجمال الفضيلة.. ولأن الفضيلة نفسها جمال، فإن النفس بطبيعتها تهفو إليها.. الى الجمال.

الآن، بت أكثر يقيناً وأنا أتحدث عن سيرة هذا الرائد الفذ، بأن استدعاء المشاهد الجمالية من زمانها الى زماننا، هو محاولة للانتصار أو محاصرة الواغش والرديء، في وقتنا الحاضر، وأن استحضار أو استقدام الشخصيات العظيمة التي رحلت عن عالمنا، هو تمترس بالقيم، وبالعزيمة، وهو تمسك بالأمل في آن واحد.. كل الحكاية أنني بت أشعر في ذاتي بايقاع جمالي يجذبني في البداية، آملاً أن يلقى الاستحسان في النهاية.

تهدمت المدرسة الإعدادية، ونقلت من مكانها دون أن يطلق اسم علي الشيخ عليها، لكن اسمه في الحقيقة سيبقى على امتداد الدهر، آيات من التقدير والحب، وآيات من المجد والفخر. ذلك أن أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات الشيخ ينتشرون في كل ربوع مصر ينشرون المعرفة والطب والاقتصاد والهندسة والحق والفكر.

لقد كان من حسن حظ القرية أن علي الشيخ حلَّق بها في قرى مصر وحملها معه الى القاهرة والإسكندرية، وأن محمد عفيفي مطر حلق بها في آفاق عربية وعالمية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store