Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

كيف يكون الشاعر سياسيًا وعاشقًا؟!

A A
تبدو المعادلة صعبة بين حالة ذاتية متمركزة على شأنها اليومي، وممارسة اجتماعية لا قيمة للفردية فيها وتسخر كل جهودها للمجتمع.. تمنحنا قصة الشاعر الروسي الكبير ماياكوفسكي الكثير من الإجابات عن ذلك.. لا نعرف عن الشاعر الكبير ماياكوفسكي، سوى كونه شاعر الثورة الروسية العظيم.. مع أن المخفي وراء هذا المناضل، شابًا عاشقًا لم يتحمل سرقة حريته، وفراق حبيبته، ومنعه من السفر إليها.. فقد كتب في البداية شعرًا كثيرًا جسد من خلاله علاقته بثورة أكتوبر ١٩١٧.. وربما كانت قصيدته «غيمة في سروال» التي بدأها في ١٩١٤ هي أهم نص عبر من خلاله على رفض كل النظم الظالمة.. قصيدة صادمة رفض فيها كل شيء مما كان يحيط به: فليسقط حبكم.. فليسقط فنّكم.. فليسقط نظامكم.. فلتسقط ديانتكم..

في أثناء تنقلاته تعرف، في مدينة أوديسا، على ماريا ألكسيفنا دينيسوفا، وأحبها بقوة، لكنها سرعان ما تركته وتزوجت برجل غني.. شعر يومها بأن البورجوازية سرقت منه حبه، في ظل تسيد القيم المزيفة والعلاقات التجارية.. لهذا حملت قصائده رغباته الكبيرة في الثورة وتغيير المجتمع الظالم.. فكان أول المتنبئين بثورة أكتوبر ١٩١٧.. بعد انتصارها صرخ: إنها ثورتي.. أصبح بسرعة صوت الشعب الروسي المنتفض ضد الظلم.. أخضع القصيدة إلى المتطلبات الفنية خارج البلاغة الروسية الثقيلة والمعقدة، فجاب روسيا كلها عبر المزارع والمعامل محرضًا على الثورة من أجل ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية.. في سنة ١٩٢٢ سافر إلى ألمانيا وفرنسا والمكسيك وأمريكا، قال بعدها جملته الشهيرة: (جئت لأُدْهِش، لا لكي أندهش).. ليثبت أن ما حصل في روسيا كان كبيرًا.. سيغير وجه العالم.. شكلت زيارة باريس لحظة كبيرة في حياته، إذ لأول مرة يخرج من المدارات السياسية التي ابتلعته.. تعرف بباريس على شابة من أصول روسية سحرته: تاتيانا ياكوفليفا.. ارتبط بها لدرجة أن نسي كل شيء.. فكر في الزواج منها والمكوث في باريس نهائيًا.. اضطر بعدها إلى العودة إلى موسكو ليغرق من جديد في دوامة حياة سياسية قاسية سيدتها البيروقراطية التي قال فيها: (لو كنت ذئبًا لقضمت البيروقراطية).. ظل مشدودًا إلى تايانا التي كانت تمنحه السكينة والراحة.. وتصيدته البيروقراطية، والانتهازية، فبدأت عزلته القاسية.. قصيدته مئة وخمسون مليون الانتقادية، استقبلت بغضب من المؤسسة السياسية، لكنه ظل وفيًا لقائد الثورة، لينين، ورثاه في قصيدة طويلة في ١٩٢٤: لكن البيروقراطيين، كانوا له بالمرصاد، فشددوا الحصار عليه، وضيقوا عليه الحياة، فسخروا منه ومن شعره.

أعادته العزلة القاسية التي فرضت عليه إلى حبيبته تاتيانا التي شكلت له ملجأ روحيًا.. ظل اللحظة التي يترك فيها كل شيء ويركض نحو حبيبته.. وعلى الرغم من دخوله في علاقة جديدة في 1925، في إحدى جولاته في الولايات المتحدة، مع إيلي جونز التي أنجب منها ابنته الوحيدة، فقد تاتيانا ياكوفليفا لكنها حبه الأكبر.. كتب فيها واحدة من أجمل قصائد العشق، في 1928 بعنوان «رسالة لي تاتيانا ياكوفليفا».. تواصل معها وأكد لها على ترك كل شيء والسفر إليها.. ظلت تنتظره بحب وشوق.. لكن الآلة البيروقراطية كانت أقوى وأخطر.. فقد منعته من السفر وأصبح الشاعر الكبير، لا شيء.. وتم عزله كليا.. أدرك بسرعة أن حياته انتهت وأن حلمه قد سُرق منه.. فحرر تاتيانا من حلم لم يعد ممكن التحقق.. بعد مدة قصيرة تزوجت مرغمة من الفيسكونت دوبليه..

دخل في ظلمة قاسية لم يخرج منها أبدًا.. حتى بؤرة الضوء الوحيدة، سرقوها منه بعد منعه رسميًا من السفر، ووضعه تحت الرقابة المميتة.. عرف ماياكوفسكي أن شاعر روسيا العظيم، قد مات.. في 14 نيسان 1930، عثروا عليه جثة هامدة بعد طلقة مسدس، يتوسد بعض كلماته الأخيرة: أمي، أخواتي ورفاقي، حبيبتي، سامحوني.. هذه ليست الطريقة الصحيحة، ولا أنصح أحدًا بها، لكن لم يكن لدي أي خيار آخر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store